كتاب الخالدية – رواية لـ محمد البساطي
كتاب الخالدية – رواية اللغة : العربية دار النشر : دار الهلال سنة النشر : 2004 عدد الصفحات : 120 نوع الملف : مصور |
الرواية تغطي أحداث حيوات كاملة في حوالي المائة وعشرين صفحة بتفاصيلها الدقيقة وما وراء أسوار بيوتها الريفية من خبايا و مشاكل و إحباطات و مخاوف و ندوب في وجوه مجتمعنا يكشفها (البساطي) الذي تعودت من قراءاتي له على تلك التفاصيل التي لا يسلط عليها الضوء غيره ..
محمد البساطي.. ابن بلدة (الجمالية) المطلة على بحيرة المنزلة.. صاحب العشرين عملاً ما بين الرواية والمجموعات القصصية بدأ مشواره عام 1967 برواية (التاجر والنقاش) ليبدأ مشواره الإبداعي الذي توج برائعته (الخالدية) مروراً بـ(المقهى الزجاجي) (1978)، (الأيام الصعبة) (1978)، (بيوت وراء الاشجار) (1993)، (صخب البحيرة) -فازت بجائزة احسن رواية لعام 1994 ، (ويأتي القطار)، (ليال أخرى)…، وغيرها.
كما صدرت له كذلك عدة مجموعات قصصية مهمة، ومنها: (حديث من الطابق الثالث) (1970)، (أحلام رجال قصار العمر) (1979)، (هذا ما كان) (1987)، (منحنى النهر) (1990)، (ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً) (1993)، (ساعة مغرب) (1996)…، إلخ.
فاز (البساطي) عام 2001 بجائزة (سلطان العويس) في الرواية والقصة مناصفة مع القاص السوري (زكريا تامر).
يراه بعض النقاد بأنه الذي جعل من القرية الصغيرة أسطورة .. فمعظم أعماله تدور في جو الريف الساحر الذي يجذب القارئ إليه ليعيش ويتعايش في ذلك العالم الغني الساحر الذي يشده له (البساطي) بأسلوبه السهل الممتنع.. ليصدمك بسلبيات مجتمعنا من خلال التفاصيل الدقيقة لحيوات أبطاله المهمشين في الحياة الذين لا يهمهم سطوة السلطة أو تغيرات العالم من حولهم ..
تسرد الرواية قصة قرية (الخالدية) .. قرية صغيرة بالوجه القبلي مشطورة لنصفين متناقضين .. البر القديم –منشأ المدينة- بطبقاته المطحونة وأناسه المقهورين المعبئين بالغضب من حال البر الثاني الذي تسود فيه الفيلات والقصور ذات الحدائق الضخمة حيث يعيش أغنياء المدينة.. يفصل بينهما النهر كأغلب مدن الصعيد .. و يقطع النهر الكوبري الذي يصل الضفتين ببعضهما .. يمكن فتحه بحجة مرور السفن الشراعية على الرغم من أن ارتفاع الكوبري يسمح بمرورها .. السبب الحقيقي هو عزل الضفتين وقت الاضطرابات .. فصل الطبقتين عن بعضهما مما يسهل مهمة الأمن ليريح المأمور بطل الرواية والتي تسير الأحداث مع سيره ..
الجديد هنا هو أن القرية بكل تفاصيلها الدقيقة من صنع الخيال ! .. خيال بطل الرواية الحقيقي .. الموظف في أرشيف وزارة الداخلية الذي يعيش وحيدًا ويتقن تزوير توقيعات مسؤولي الوزارة ويستغل قدراته هذه في عملية تزوير هي الأكبر في عالم التزوير حيث يقيم من خلالها بلدة بكاملها ويضع في داخلها مخفرًا للشرطة ! .. و قد استوحى (البساطي) تلك الفكرة من الحادثة الشهيرة التي قام فيها محاسب ببناء مبنى اعتُمِد مركزاً للشرطة داخل إحدى القرى ليستمر أعواماً داخل القرية و الكل يظنه مركز شرطة حقيقيًا و يتعامل مع الموجودين فيه و كأنهم ضباط ..
يقوم البطل الحقيقي هنا بعمل (ماكيت) للبلدة الوهمية في غرفته بالصلصال .. يصنع شوارعها و مبانيها و أناسها ليتخيل حوارات أهل القرية و مشاكلهم و حسناتهم و سيئاتهم من خلال مخاطبته لمأمور مركز الشرطة الذي يتقمص شخصيته حتى يمكنه حَبْـك خدعته لتصبح أذون الصرف المزيفة منطقية الأسباب ..
تعرض الرواية حيوات أهل المدينة المتناقضة .. من السيدة (نجوى) بالبر الثاني ذات الغناء الفاحش و الجمال الارستقراطي و التي تمارس نشاط خطف الفتيات القرويات لتحويلهن لعاهرات و التي يسهل المأمور لها مصالحها حسب بنود صداقتهما، (الحاج صبحي) تاجر الأدوات الصحية و الزبون الدائم لمدام (نجوى) و صاحب جلسات المزاج، الفتاة المتزوجة التي يحبها المأمور و يحاول التقرب لها و إبعاد زوجها بالقوة لو أمكن، زوجة المأمور التي أتى ذكرها قليلاً و التي لا تسكن (الخالدية) و كيف تشمئز من الطريقة التي يمارس بها زوجها الجنس معها، معاونو المباحث الذين يختلسون بعض ضبطيات (الحشيش) لأنفسهم أو لتحقيق مصالحهم .. سكان البر الثاني المستعدون لترك قصورهم إذا بلغهم المأمور بثورة أهل البر القديم التي يترقبها و يخشى حدوثها ..
و من خارج العالم الفانتازي الوهمي هناك (يونس) .. الموظف البسيط رقيق الحال و الذي تعمل زوجته كخادمة و الذي اختاره البطل لصرف إيرادات مركز الشرطة الوهمي حتى لا يكون في وجه المدفع .. و الذي تتطور شخصيته من البحث عن أقل القليل لإطعام أولاده ليبرز الحيوان الشهواني بداخله مع الراتب المغري الذي يعطيه له البطل ليبدأ التدخين و خيانة زوجته لتدمر النقود حياته باكتشاف زوجته خيانته لها ..
يمر البطل في تلك الرواية بمرحلة النفور تدريجياً .. مما يظهر واضحاً من سير الأحداث في (الخالدية) المتناغم و غير المتطابق مع تطورات نفسيته عن طريق المأمور الذي أصبح و كأنه قرينه .. لتبدأ الهلاوس و يبدأ عالم (الخالدية) الذي صنعه ينقلب عليه من خلال إقحام الواقع بالخيال ليراه المأمور ليلكمه في أنفه ليصحو و أنفه غارق بدمه بالفعل ! .. يرى حياة (يونس) تُدمَّر أمامه بسبب النقود، المرأة العجوز التي رمى لها ظرف النقود من شباك منزلها بالدور الأرضي لتشترى بالنقود خمراً و تقف لتسب جيرانها بصوت عالِ لتقع على الأرض ميتة في النهاية في مشهد مؤثر أجيد توظيفه بشدة ..
تصل ذروة تيمة (تمرد المسخ على صانعه) في نهاية الرواية .. ليقتل المأمورُ بطلَ الرواية لتجسسه عليه في غرفة نومه بعد أن نال فتاته التي رغب فيها منذ خطا بقدميه أرض القرية .. بعد أن فشل البطل في إبقاء كفتي الميزان متساويتين بين رغبته في نصرة الفقراء الذي هو منهم و ممارسه السلطة التي لم يعشها في الحقيقة من خلال تقمصه لشخصية المأمور .. لتنتهي حياته و تطفأ أنوار (الماكيت) لتعلن نهاية (الخالدية) ..
في المجمل تحمل الرواية كعادة (البساطي) هموم من يعيشون على هامش الحياة .. تعرض التواطؤ الذي يحدث في جميع أطوار العيش .. وأن الفساد ليس له مصدر معين لأن الجميع متواطئون فيه .. المساحة الرمادية التي تغطي برمزها رموزًا أعمق .. و تعتبر “خالدية” (البساطي) في رأي العديد من النقاد فتحاً جديداً و باباً لم يُطرق من قبل في الأدب العربي من ناحية توظيف الفانتازيا بجو محلي بحت نجح في تحويله إلى حالة عامة.