| | | |

كتاب أبو بكر الخوارزمي – حياته وأدبه لـ محمود صالح الضمور

وصف الكتاب

قال عنه الثعالبي في «اليتيمة»: «وهو قوي المعرفة، قويم الأدب، نافذ القريحة حسن الشعر، ولم يزل يتقلب في البلاد، ويدخل كور العراق والشام، ويأخذ عن العلماء، ويقتبس من الشعراء، ويستفيد من الفضلاء، حتى تخرج وخرج فرد الدهر في الأدب والشعر».
نشأ أبو بكر في خوارزم، ثم شد الرحال في شبيبته إلى بلاد الشام، فزار دمشق، ثم حلب ومكث مدة في كنف سيف الدولة الحمداني، إلا أن إقامته لم تطل فيها، فتوجه إلى بخارى، وصحب هناك أبا علي البلعمي وزير آل سامان، فلم يحمد صحبته، ففارقه وهجاه. ثم قصد سجستان، وتمكن من الوصول إلى واليها أبي الحسين طاهر ابن محمد، فمدحه ونال صلته، غير أنه لم يلبث أن انصرف عنه وهجاه، فظفر به طاهر بن محمد وأودعه في السجن مدة طويلة، فكتب أبو بكر قصيدة توجه بها إلى الأمير أبي نصر أحمد بن علي الميكالي يستعطفه فيها، ويشكو حاله وما يعانيه في السجن من خوف وهزال وعري وجوع وسوء منقلب، وربما كانت هذه القصيدة سبباً في فكاك أسره وإطلاق سراحه، فنهض إلى طبرستان، فلم يلق فيها ما كان يأمل من هدوء البال ورغد العيش، فتوجه إلى نيسابور، ثم إلى أصفهان حيث التقى بالصاحب ابن عباد وزير آل بويه ومدحه، فأكرمه الصاحب وجعله من ندمائه، ثم زوده بكتاب إلى عضد الدولة في شيراز، فكان الكتاب نعم الزاد لأبي بكر، إذ حظي من عضد الدولة بما كان يطمع به من المال الوفير، فعاد إلى نيسابور واستوطن فيها، واقتنى فيها الضياع والعقار، فكانت أيامه فيها مقسومة بين مجالس الدرس ومجالس الأنس.
كان أبو بكر يتعصب للبويهيين، ويغض من شأن سلطان خراسان ومن وزيره أبي الحسن العتبي، فما كان من هذا الوزير إلا أن أمر بحبس أبي بكر وتقييده ومصادرة أمواله، ولكنه تمكن من الهرب إلى جرجان حيث عاود اللقاء بالصاحب بن عباد «فتجلت عنه غمة الخطب، وانتعش في ذلك الفناء الرحب» كما يقول الثعالبي. واتفق أن قتل أبو الحسن العتبي، وتولى الوزارة بعده أبو الحسين المزني، وكان من أشد الناس حباً للخوارزمي وإعجاباً به، فاستدعاه إلى نيسابور وأكرمه، وأمر برد ما صودر من أمواله.
هذه الحياة الصاخبة التي عاشها أبو بكر الخوارزمي، بما زخرت به من ألوان الشقاء والنعيم، واليأس والأمل، ما كان مقدراً لها أن تختم بمحنة دهي بها أبو بكر، فهزت كيانه ونغصت عيشه. ففي عام 382 هـ/992م وفد بديع الزمان الهمذاني إلى نيسابور، والتقى أبا بكر، فوقعت بينهما مساجلة حادة أشعل فتيلها بعض خصوم الخوارزمي من الأمراء المستوحشين منه والراغبين في إسقاطه، مستغلين دهاء بديع الزمان، وفتوته الفكرية ورغبته في الازدلاف إلى المجد، والحظوة لدى رجال العلم والحكم، فانتصر الهمذاني في هذه المساجلة ورجحت كفته وانخذل أبو بكر، وساءت حاله، إلى أن توفي بعد ذلك بعام واحد.
كان الخوارزمي ذا مزاج متقلب وشخصية متمردة، ما تكاد أموره تبلغ به مستقرها حتى تجد منه النبو والانصراف. وكان لا يعبأ بالعواقب التي تترصده إذا هم بتحقيق ما يبتغي من المكاسب، والوصول إلى ما يريد من المطالب، ومع ذلك فقد ظل التاريخ يحتفظ للخوارزمي بمكانة مرموقة، ومنزلة رفيعة، فلم تخل كتب الأدب والتراجم من ذكر اسمه، والإشادة بما خلفه من آثار أدبية سواء في الشعر أو في النثر، فقد كان ذا ثقافة واسعة ومعرفة عميقة بالعربية وعلومها المختلفة، حتى عد واحداً من الشعراء العلماء.
ومما يؤكد أنه كان ثقة عند أهل عصره باللغة ومعرفة الأنساب أن الصفدي نقل عن الحاكم النيسابوري قوله في كتابه «تاريخ نيسابور»: «كان أوحد عصره في حفظ اللغة والشعر، وكان يذاكرني بالأسماء والكنى حتى يحيرني من حفظه».
خلف الخوارزمي ديوان شعر، كما أن بعض أشعاره مبثوثة في عدد من كتب الأدب ومجاميع الشعر من بينها: «يتيمة الدهر» للثعالبي حيث حفلت بترجمة موسعة للخوارزمي، وبأكبر قدر من نماذجه الشعرية، و«التوفيق للتلفيق» للثعالبي أيضاً، و«حماسة الظرفاء» للزوزني، و«محاضرات الأدباء» للراغب الأصفهاني، و«نهاية الأرب» للنويري، وهذا يدل على ذيوع شهرة أبي بكر وتفننه في أغراضه وموضوعا ته الشعرية العامة والخاصة.
ومن الواضح أن شعر أبي بكر يعد تمثيلاً جريئاً لحياته المضطربة وعلاقاته بالحكام والأمراء، إذ كان يجد في التقرب إليهم تثبيتاً لمكانته الأدبية وتحقيقاً لمطامعه المادية، مع ما كان يمنى به من انتكاسات بين الحين والحين. غير أنه لم يقف في موضوعاته الشعرية عند حدود المدح والهجاء والرثاء،بل تعدى ذلك إلى شيء من الغزل الرقيق الذي جمع فيه بين المعاني الطريفة والصياغة الرصينة، كما في شعره لوحات وجدانية ينكفئ فيها على ذاته فيصور ما يعتلج في صدره من هموم وأحزان، وما ينتابه من جور أبناء الزمان، مما يدل على قوة شاعريته وتلون خياله.
ومما يلفت الانتباه في شعر الخوارزمي أنه كان شديد الولع بالتضمين الذي يعني تزين القصائد بأعجاز أبيات يستعيرها ممن سبقه من الشعراء، فينزلها في سياق مؤتلف لا نبو فيه ولا تنافر. وقد تتبعها الثعالبي وردها إلى مصادرها من أشعار السابقين.
وفي العصر الحديث قام بجمع شعر الخوارزمي وتحقيقه صالح الضمور، أما رسائله فهي خلاصة لتجاربه الحياتية، وخواطره التأملية. فمنها: في فضل الحِمْية، في مدح الفقر، في ذكر الآفات، في وصف بستان، في الرد على بعض تلامذته، في التعريض ببعض الظالمين من الولاة في التعزية، وقد انتقى له الثعالبي من رسائله عبارات تجري مجرى الحكم والأمثال في اختصار ألفاظها وغنى معانيها.
وفي رسائله من صور الجد والهزل ما يمتع النفس ويطرب الروح، مما ينم على شخصية كاتبها التي تصفو وترق أحياناً، وتقسو وتتكدر أحياناً أخرى، فهو، كما يقول زكي مبارك: «من أسبق الكتاب إلى الإفصاح عن علل العواطف والشهوات».
أما أسلوبه فيقوم على التوازن والازدواج، والصيغ السلسة الحسنة التأليف.إلا أنه مع ذلك خضع لما اقتضاه ذوق عصره في النثر من ولع بالصنعة، وكلف بالبديع، فأوغل في السجع دون إسفاف، وفي التجنيس من غير إسراف، واختار لنفسه بلاغة تضمن له التفرد والاستقلال. غير أن هذه الصنعة، حين يحمل نفسه عليها في بعض رسائله، توقع أسلوبه في شيء من الرهق وشيء من الضعف.
 

كتب ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *