|

كتاب الآثار الكاملة – المجلد الأول ( الروايات) لـ غسان كنفاني

حول الكتاب
ليس من العسير على من يقرأ قصص غسان حسب تتابعها الزمني أن يلمح فيها صورةً من التدرج الواعي المتعمد نحو واقعية صلبة محددة الحوافي جاسية المظهر، مشمولة بمزيد من البساطة ومزيد من الوضوح، كأنما كان دائماً يحاول أن يقترب من حدود الهدف الذي وضعه لنفسه-في دور مبكر-وهي أن تكون القصة واقعية مائة بالمائة، وبنفس الوقت تعطي شعوراً هو غير موجود. حتى قصة “ما تبقى لكم” التي يعدها بعض النقاد غامضة، تكاد لا تشذ كثيراً عن تلك القاعدة، إذ حاول غسان منها أن يطوع طريقة التداعي وانعدام الفواصل بين منولوجيات شخصياته فيها، ويجعلها في أوضح مستوى ممكن، قائمة على نظام محدد السمات، مع أن هذه التقنية الفنية لدى غيره من الكتاب تنحو نحو العلم المبهم المرشح بالإيماء، المؤيد بالتظليل والتأرجح والتداخل وعدم الانضباط الكثير في حركة النفس الداخلية. ورغم بلوغ غسان في التزام الواقعية إلى درجة يتعذر فيها الفصل أحياناً بين الواقع الحضاري والواقع الفني، فإننا لا نستطيع أن نعدّه “وثائقياً” في فنه؛ لأنه لم يكن يكتفي بترتيب عناصر الواقع الحضاري على نحو تاريخي متصاعد أو متكامل، بل كان يعيد ترتيب تلك العناصر، ويمنحها التكثيف والتوجيه، ويستغل فيها الصور والمقارنات والمفارقات، بحيث تجيء خلقاً جديداً هو الواقع وليس به-هو الواقع الذي يراه أو يريد أن يراه قاص متفنن ملتزم، وليس هو الواقع الحرفي-طبيعياً كان أو حضارياً.
وكما تدرج غسان في طريقه نحو تلك الواقعية الصلبة، تدرج أيضاً في طريقة الإفادة من الوسائل الفنية التي كان يظنها كفيلة بتحقيق تلك الغاية. فمرّة كان يعتمد رسم المفارقات والمناظرات، ومرة كان يلجأ إلى إيثار البساطة الموحية في طبيعة الحوار، ومرة ثالثة يستغل عنصر “لا مكان” الضروري، ومرة يجمع بين هذه الوسائل جميعاً؛ غير أنه من البداية إلى النهاية ظلّ مصراً على أن خير ما يبلغه هدفه هو طبيعة الشخصيات التي لا مناص لها من العيش ضمن إطار واقعيته المبتغاة، وحين كتب غسان “أم سعد” كان قد تنازل عن كل “فذلكة” فنية في سبيل أن لا يدع هناك أية مسافة بين الواقع الحضاري والواقع الفني، وبذلك أيضاً تنبئنا قصة “برقوق نيسان” التي أعجلته المنية عن وضعها في شكلها النهائي.

إن القصة حين تترك أثراً عميقاً في نفوسنا لأنها كذلك، أي لأننا نراها واقعية واضحة بسيطة، كأنها-دون تعمّل-لون من ألوان الحكاية، من غير أن تتذرع للوصول إلينا بذرائع من فلسفة فكرية أو من إثارة عاطفية أو من تقنية مركبة أو غير ذلك من وسائل وعناصر. إن القصة حين تفعل ذلك، تبلغ مرحلة الأثر الفني المعجب المدهش الذي لا نملك إزاءه تعليلاً لما يتملكنا من إعجاب ودهشة، مع إيماننا بأننا أسرى لسحرٍ غير سري أو غامض فيه. ترى أي دور كان من المقدر لغسان أن يؤديه في تطوير القصة العربية الفلسطينية لو امتدَّ به طلق العمر؟ وهنا يقول إحسان عباس بأنه يستطيع أن يزعم بأنه كان من الممكن للقصة على يدي غسان أن تبلغ مرحلة “الرؤيا الجماعية” التي يستوي في مدى ارتياحه إليها وتأثره بها المثقف وغير المثقف، على نحو متشابه أو متقارب، لأنها تربط بين الأحاسيس متخطية الفوارق في الميول والمواقف والأذواق. وحين نكبّر إخلاص غسان في هذه المحاولة الشاقة؛ فإن ذلك لا يعني انتقاصاً أو تهويناً في شأن الطرائق الفنية الأخرى التي يعتمدها غيره من كتاب القصة، ولكن إصرار غسان على أن تصبح القصة التي يكتبها “واقعية مائة بالمائة، وبنفس الوقت تعطي شعوراً هو غير موجود” ليس يدل وحسب من الزاوية الفنية على محاولة في التفرد والأصالة، وإنما يدل أيضاً على مدى التلازم بين الفن وقضية الإنسان، ومدى استعداد الفنان لأن يجعل فنّه في خدمة الشعب، وقدرته على الاحتفاظ بالتوازن الضروري بين الإثارة الفنية المتجددة والحاجة الشعبية المتطورة.

مناقشة الكتاب    ملف الكتاب    

كتب ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *