كتاب الحب السائل لـ زيجمونت باومان
كتاب الحب السائل |
عنوان الكتاب: الحب السائل
المؤلف: زيجمونت باومان
المترجم / المحقق: حجاج أبو جبر
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
الطبعة: الأولى 2016 م
عدد الصفحات: 208
حول الكتاب
في هذا الكتاب الذي بين أيدينا يرصد زيجمونت باومان صيغ البحث عن الفائدة والخيارات الرشيدة وكيف دمرت ما تتسم به العلاقات الوجدانية من ديمومة وعفوية – تلقائية – عاطفية، حيث إن التأقيت والمدى القصير الذي تقوم عليه حسابات المجتمع الإستهلاكي الحديث تقوم بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل قديم لشيء مستهجن يستحق ان يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك .. المشاعر والأجساد والصلات.يأخذنا باومان في رحلة تبدأ من الفلسفة لتدخل في صلب الاجتماع ثم تنتهي بالسياسة. فباومان بعد أن مهد في كتابيه الحداثة السائلة والحياة السائلة – كما رأينا حين ناقشنا أهم أفكاره في مقدمة الترجمات التي صدرت له في هذه السلسلة – يسعى لفهم طبيعة ((الحالة السوسيولوجية)) التي تعيشها مجتمعاتنا، ويريد هنا في كتاب الحب السائل أن يبين تجليات الحداثة السائلة في الوعي بالذات والخيارات الشخصية، ولن نقول: والعلاقات، فقد اخترنا في الفقرة السابقة – وبوعي – وصف باومان ((الصلات والاتصالات)) إذ يرى أن ((العلاقات)) وصف عميق يعكس خيارات اجتماعية مركبة ومعقدة ولها ثمن في مجتمع متلاحم، في حين أن إنسان الحداثة السائلة يقرر أنه لا يرغب في دفع أثمان ولا استثمار وقت ولا التضحية من أجل ان يحصل على مزايا التواصل الاجتماعي أو الاتصال الجنسي. ببساطة تحول هذا الانسان من ((وضوح العلاقات الاجتماعية)) إلى ((غموض الصلات العابرة)) في ظل تنامي السيولة في كل شيء من حوله … وفي ظل تحول ما كان يسمى ((المجتمع)) إلى مجرد ..(( تجمع بشري)).في الفصل الأول من هذا الكتاب يتحدث باومان عن العلاقة بين الحب والموت، وعن فقدان الأفق والرغبة في تحصيل عوائد الأفعال – الآن وهنا، بلا صبر أو تأجيل أو نقاش أو تفاوض.الربط بين الحب والموت قد يبدو غريبا للبعض، لكن مفكرا مثل تشارلز تايلور كان قد رأى من قبل أننا حين نعتقد أن الأفق الممكن للتغيير يكمن في داخلنا فقط فإن هذا يجعلنا نتصور أننا ((آلهة)) بشكل ما، لذا فإن الحديث عن ((موت الإله)) في الفلسفة الغربية من أجل توكيد إرادة الإنسان قد قتل الإنسانية بمعنى ما، فلا نحن احتفظنا برحابة الأفق ومدد الغيب، ولا صرنا في حقيقة الأمر آلهة .. بل تسيد علينا السوق وأدوات التقنية الحديثة في نهاية المطاف كما سنرى.والحق أن العلمانية لم تكن مشروعا سياسيا فقط، ففك الارتباط بين الغيب والعالم كان يعني أيضا فقدان المجتمع مكانته التي تعلو على آحاد الأفراد وتحتويهم في الوقت ذاته، فما هو متجاوز للمادي ليس عالم الغيب فقط بل كل المعاني المتعالية، فإن تم الانتقاص من الغيب انفرط العقد.الموت ليس موضوعا منفكا عن الوعي بالعالم وعن مشاعر الوجدان، فالموت حين يقترب وحين يغدو نقطة نهائية وليس هناك ((ما وراء)) تبرز إلى السطح تلك الرغبة العارمة في الإمساك باللحظة والاستمتاع بها حتى السكر … وبأقل تكلفة أو التزام.ولو تاملنا قليلا سنجد أن الحداثة برغبتها في سيطرة الإنسان على العالم وتحقيق الذات الفردية جعلت احد جبهاتها مقاومة الموت، وذلك بمحاولة علاج بوادر اقترابه ومحو آثار العمر، وقامت صناعات كاملة على ذلك من صناعات التجميل ثم طب التجميل العابر للتخصصات (الجراحة والأسنان والجلدية)، والرياضة التي تحولت بدورها إلى صناعة ضخمة بمنتجاتها الميكانيكية والدوائية والمكانية والمنتجات المقترنة بها للاستخدام اليومي)، وليس في التجمل بأس ولا في الرياضة مشكلة، إنما البأس والمشكلة في أن يتحولا إلى هوس ينكر دورة الحياة الإنسانية ويجعل مهمته مواجهة زحف الموت بأي ثمن – كما كتب جون غراي .. حتى لو كان الثمن الإنسانية نفسها.في كتابه الحداثة والهولوكوست أخبرنا باومان مبكرا أن نبذ الغيب والألوهية يعني ببساطة أن مركز وجود الفرد يصبح هو : جسده، ويصير الجسد مصدرا للهوية ومناطا للذات، وفسر لماذا كان هذا الجسد هو هدف العنف الذي تمارسه الدولة ومناط الإبادة في وقت الحروب والنزاعات العرقية أو الدينية، وكذا رأى فوكو في دراسته للسجن والعقوبة (وبالمقابل مثلا فالعقوبات في الإسلام أقساها هو المعنوي والأخروي، بعكس ما يتصور البعض)، فالحداثة لم تف بوعدها بتحقيق السلم وحفظ الحياة الإنسانية في ظل مناخ من الحرية والمساواة، بل شهدت ممارسات إبادة بمعدلات واتساع لم يشهده التاريخ من قبل، وبأحدث التكنولوجيا.لكن تظل الحداثة مهيمنة على خيال علماء الاجتماع، فهي نظرية مفسرة للواقع ومستشرفة للمستقبل، صحيح أنها اخلفت وعودها وسببت من الكوارث ما لم يكن تحسبه في بدايات التنوير، لكن صياغتها للعالم عبر أدوات الهيمنة يفرض تعاملا معها من أجل تجاوزها، ولن يكون تعاملنا القبول لكن الفهم من أجل فك أساطيرها وبيان تحولاتها، سواء أسماها البعض مثل باومان الحداثة السائلة، أو أسماها فريدريك جيمسون ((الرأسمالية في طورها الأحدث)) متطلعا إلى يوتوبيا جديدة تتجاوزها، أو أسماها جيفري ألكساندر ((الحداثة الجديدة)).يصحبنا باومان في هذا الكتاب من النظرية الاجتماعية التي قدم اطارها سابقا ليحلل بشكل محدد خيارات الفرد الشخصية – العاطفية والجنسية – في زمن الحداثة السائلة … حيث الحياة تخلت عن صلابة جذورها.يحدثنا عن الحياة العاطفية في ظل غياب أعمدة وسقف، حين تختفي الثقة وتسود المغامرة، حين يأكل الإنسان الثمار المحرمة وهو يظن انه سيجد جنته المفقودة، وتعده آلة التسويق الرأسمالية بـ ((قمة اللذة .. منتهى النشوة .. غاية المتعة))، فيدخل إلى عالم الصلات العابرة ظنا منه أنه يتخفف من مسؤوليات ولا يحرم نفسه من فرص قد تظهر وآفاق قد تستجد، لكنه يجد نفسه في النهاية تعيسا يحتاج إلى مستشار نفسي يقود حياته أو خبراء ينصحونه بمقابل باهظ كيف يقيم علاقة طبيعية في زمن لم يبق فيه طبيعي ولا صناعي على حاله … عالم النفايات كما يسميه باومان، حيث كل الصلات يمكن الاستغناء عنها – مثل منتج تم استهلاكه – فالعين تمتد دوما إلى ما وراء اللحظة وتتطلع إلى ما يتم تزيينه أنه الأفضل .. غير راضية بما هو متاح.فحين اختفى الأبد بات الإنسان يبحث عن أبدية اللذة في لحظية المتعة وآنيتها .. بلا توابع ولا مسؤوليات.وكما يقول باومان في تحليله : الحب بطبيعته يسعى إلى إدامة الرغبة، وأما الرغبة فبطبيعتها تهرب من قيود الحب.فإذا استثمر المرء في علاقة حب، فالربح الذي يتوقعه هو الأمن في المقام الأول والأخير، الأمن بمعانيه المتعددة: أمن القرب من يد العون في الشدائد، والتعزية في الأحزان، والمؤانسة في الوحدة، والغوث في المحنة، والمواساة في الفشل، والتهنئة في النجاح، والتلبية الفورية للحاجة عند طلبها. ولكن على المرء أن يحذر، وأن يدرك أن وعود الارتباط في ظل الحداثة السائلة ما ان يقطعها أهل الحب على انفسهم، (( لا معنى لها على المدى الطويل))، لأن امتداد الزمن، آخره .. الآن وهنا.إنه عصر قطع الغيار واستبدال المنتج قبل نهاية فترة الضمان، وليس عصر فن إصلاح الأشياء، إنه عصر الفرصة القادمة التي تجعل ما في يدك قابلا للتخلي عنه فلا ترتبط به بشدة، فقد لا يكون شريكك هو الآخر راغبا أو قابلا لعلاقة طويلة تحرمه بدوره من فرص أفضل.وليس الأمر خيارات أفراد يكفي تعديلها فحسب، فالمشهد برمته يحتاج على تغيير جذري كي نسترد إنسانيته و((مجتمعيته))، فقد أنتجت الحداثة والرأسمالية إنسانها الذي يناسبها، ونشأته لها الدولة عبر أدوات التربية والتثقيف على النفعية والتفكير النرجسي، وفككت علاقاته وروابطه هيكليا عبر عقود بل قرون وبشكل منظم ، وبالتالي فغنه ليس من المباغتة القول إن الدولة حاضرة في العلاقات الجنسية، فهي التي قامت بتشكيل كل السياقات التي تؤدي إلى هذه اللحظة وفرغتها من مضمونها التراحمي والثقافي والزمني والوجودي بل والغيبي الميتافيزيقي الأعلى وبالتالي لم يبق لتلك اللحظة إلا علاقة الأجساد … والأجساد في النهاية يصيبها الملل او تزهد في جسد آخر قد أصابه التعب.