|

كتاب تجديد الفكر الديني – دعوة لاستخدام العقل لـ د.أحمد البغدادي

 

82685 8016bce1 ec06 41cb 831f 6db43025a304عنوان الكتاب: تجديد الفكر الديني – دعوة لاستخدام العقل 

 

المؤلف: د.أحمد البغدادي


المترجم / المحقق: غير موجود


الناشر: مؤسسة الانتشار العربي


الطبعة: 2008 م


عدد الصفحات: 452



حول الكتاب:

ما هو الفكر الديني ؟
معظم المثقفين يعلنون بكل وضوح ، خوفا من الاتهام بالردة أو التكفير ، أن الدين شيء، والفكر الديني شيء آخر !الدين هو الوحي المنزل الذي نقرأه في القرآن الكريم، وما تجسده الأحاديث النبوية الصحيحة. طيب ما الفكر الديني إذن ؟ يجيبون بالقول إن الفكر الديني هو ما يصدر عن الفقهاء ورجال الدين من تفسير وتأويل لهذه النصوص الدينية، وبالتالي لا يحمل فكرهم هذا صفة القداسة، وبالتالي فهو، كفكر قابل للأخذ والرد، والرفض والقبول. وهذا كلام باعتقادي، أنه سخيف وهو يمثل هروبا من المواجهة مع رجل الدين والغوغاء المسلمين، وبالتالي لا يحل مشكلة التخلف الفكري الذي يعصف بالمسلمين، ولا يقربهم مليمترا واحدا من طريق الحداثة المطلوبة.
 الحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها أن الفكر الديني، أي فكر كان، لا بد وأن يستند إلى النص الديني بطريقة أو بأخرى ، وأنه لا محيص من الاعتراف بأن رجل الدين ، بغض النظر عن كيفية ظهوره ، هو المصدر الوحيد لتفسير هذا النص ، وانه لا أحد يجرؤ على أن يحل محله ، بل إن العامة من الناس لا يصدقون سواه حين الحديث في الشأن الديني ، ولا أحد يملك الجراءة على مواجهته حتى لو ابتدع من دماغ فارغ من العلم والمنطق ، وهو ديدن كثير من رجال الدين قديما وحديثا. إذن يمكن القول إن الفكر الديني. أيا كانت ضحالته الفكرية ، لا ينفصل عن النص الديني ، ويترتب على هذه الحقيقة المؤلمة ، أن لا فكاك من التعرض لهذا النص حين البحث في موضوع تجديد الفكر الديني . أيا كانت ضحالته الفكرية ، لا ينفصل عن النص الديني ، ويترتب على هذه الحقيقة المؤلمة ، أن لا فكاك من التعرض لهذا النص حين البحث في موضوع تجديد الفكر الديني ، خاصة وأن تعدد ما يسمى بمصادر التشريع الإسلامي من قرآن وسنة نبوية وإجماع وقياس يتيح للفقيه مجالا خصبا للتوسع في الحديث الديني دون الحاجة لإثبات ما يقوله . فإذا ما أضفنا إلى ذلك كله جهل العوام بهذه المصادر الدينية ، إلى جانب التأثير الروحي السلبي على عقلية المتلقي الذي لا يملك القدرة العقلية أو الجرأة على مناقشة القضايا الدينية واعتباره لها من المسلمات ، بذلك يصبح رجل الدين سيد الساحة بلا منازع.
     إذن يمكن القول بشكل قاطع إن أي سعي جاد للبحث في التجديد الديني في الفكر الإسلامي ، لأن الدين الإسلامي هو محور البحث ، يقتضي بل ويلزم النظر في النصوص الدينية ، قرآنا وحديثا نبويا والإجماع والقياس دون استثناء لأي مصدر. وذلك دون تجاهل لحقيقة أن ذلك لا يمس بنية النص القرآني أو الحديث الصحيح باعتباره خارج نطاق البحث . زما يلزمنا في هذا المجال إلغاء القاعدة الفقهية المقررة بأنه ، (( لا اجتهاد في موضع النص )) ، إلى الأخذ بقاعدة ، (( الاجتهاد في النص )) ، وكذلك إلغاء قاعدة ، (( العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب )) ، إلى الأخذ بقاعدة (( العبرة بخصوص السبب أولا وأخيرا )) . بدون هاتين القاعدتين لا مجال للحديث ، فضلا عن البحث في الموضوع.
     الفكر الإسلامي بعد التوضيح السابق ، هو ذلك (( الفكر الديني الموصول بالدين الإسلامي وما يتضمنه من أحكام ، ( دون الغيبيات والعبادات ) مُتضمنة في النص القرآني ونصوص الحديث النبوي ، وكذلك ما قرره ممن يُعرفون بالأئمة أو كبار الفقهاء من أصحاب المذاهب الدينية المقررة باعتبارهم حائزين على صفات وشروط المجتهد المطلق )).
     هذا الفكر الديني الإسلامي بما يتضمنه من أحكام دينية تتعلق بالحياة الإنسانية المعيشة اليوم بحاجة إلى إعادة نظر وبحث جديد ، بحيث يمكن إعادة صياغتها أو إيقافها عن العمل ، إذا كان البعض لا يستسيغ كلمة الإلغاء بسبب الحساسية الدينية ، آخذين بعين الاعتبار توقف كثير من الأحكام الدينية المنصوص عليها في القرآن الكريم والأحاديث النبوية قد تم التوقف عن استخدامها في الحياة لأسباب تتعلق برفض العالم المعاصر لها ، أو عدم تقبلها حضاريا ، أو لأن مسببات وجودها قد زالت من التعامل الحياتي للناس ، مثل أحكام الرقيق ، وغنائم الحروب ، والجهاد العسكري لنشر الدعوة الدينية ، وقد استعيض عنه بالجهاد بالدعوة الحسنة ، ومُلك اليمين والتسري ، والعقوبات الجسدية للجنايات المختلفة وقتل المرتد ، على سبيل المثال لا الحصر.
    لماذا تم القبول الإذعاني اختيارا بتوقف كل الأحكام المتعلقة بالأمثلة السابقة أعلاه، ودون اعتراض من الفقهاء، في حين يتم الرفض للبحث في تجديد الفكر الديني انطلاقا من القاعدة ذاتها القائمة على انتهاء الظرف الاجتماعي أو السياسي الذي ظهرت فيه هذه الآية أو تلك؟ لماذا لا يملك الفقهاء الشجاعة للدعوة للرقيق مثلا كما نص القرآن الكريم، أو الدعوة لمُلك اليمين؟ إذن لا مناص من القول إن هذا الفكر الديني المتعلق بأحكام الرقيق والعقوبات الجسدية وتملُّك النساء بعد الحروب واستخدام الأسرى من الرجال قد عفى عليه الزمن، وما عاد من الممكن تطبيقه. أليس هذا الفكر مستمدا من النصوص الدينية؟ هل الأحكام الشرعية المتفرعة من الأصول ابتداع ((عقل)) الفقهاء، أم هو ما جاء به الدين؟
    إذن الفكر الديني ليس فكرا بشريا كما يدعي كثير من الباحثين خشية التكفير والقتل، بل هو فكر ديني مستمد من النصوص الدينية، وبالتالي لا مجال لتفادي النص الديني باعتباره المصدر الرئيس للأحكام التي تتدخل في حياة البشر. بتعبير آخر لن يكون الدين بمنجاة من التقييم باعتباره أداة من أدوات المعرفة الإنسانية من جهة النسبية في الشأن الدنيوي، دون أن يتعلق ذلك بالقدسية المقررة للنص الديني ذاته، وهو مبدأ لا يختلف عليه المسلمون من الناحية الإيمانية. وبتعبير موجز، الفكر الديني فكر متصل بالوحي. إنه كما يقول أدونيس، فكر نتاج الدين لا المعرفة الإنسانية القائمة على العقل. ((فالمعرفة هي بالنص والخبر، وليست بالرأي. وسبيلها الصحيح هو الكتاب والسُّنّة والآثار. هكذا نرى أن بُنية المعرفة في الإسلام، بحسب هذه القراءة، هي بُنية نبوية، وليست عقلية. ومعنى ذلك أن المعرفة، خارج هذه البُنية إنما هي ابتداع وضلال)). ( المحيط الأسود، ص 44 – 45.)
    وبالتالي تصبح قضية تجديد الفكر الديني الإسلامي قضية تعتمد أولاً وأخيراً على عملية إزالة البُنية الدينية واستبدالها بالبُنية العقلية، أو المعرفة الإنسانية ، مما يستلزم بدوره أولاً وقبل كل شيء إبعاد رجل الدين عن الموضوع، لأنه ببساطة لا يملك هذه المعرفة، بمعنى أنه لا يستطيع التخلي عن البُنية الفكرية الدينية لأسباب ذاتية باعتباره نتاج فكر ديني جامد مما هو سائد إلى اليوم في المعاهد الدينية، وموضوعية لأن المحيط الفكري الذي يتيح له التحرك، وهو في هذه الحالة البيئة الدينية، لا تسمح باستخدام عقله حتى لو أراد ذلك، بالتهديد بالتكفير والاتهام بالردة كما هو الحال مثلاً مع حسن الترابي في السودان، ومن قبله المفكر السوداني محمود طه رحمه الله، الذي أعدم على يد النظام الإسلامي السوداني الذي أسسه الترابي في عهد جعفر النميري !! إضافة إلى حقيقة استفادة رجل الدين من هذا المحيط الجامد فكرياً مادياً ومعنوياً ، ولسنا بحاجة لتبيان ((مزايا)) المتاجرة بالدين.
    يقول المفكر أدونيس،(( القراءة التي سادت ولا تزال سائدة هي قراءة فقهية، وأن الثقافة العربية اليوم هي ثقافة فقهية: السلطة للنص لا للرأي ….وأن مساءلة هذه السلطة، هي المسألة الأولى)). وبناء عليه، لا مجال لتجديد الفكر الديني إلا من خلال عملية إحلال الثقافة العقلية محل الثقافة الدينية، وهي عملية صعبة فكرياً لأنها المرّة الأولى في التاريخ المعاصر الذي يشهد محاولة التخلص من الفكر الديني بإعادة تفسيره وليس بإلغائه كما حدث في أوروبا، لأن العرب ملتزمون بدينهم إيماناً لا فكاك منه، مما يستلزم معه القيام بعملية ترميم فكري بالغة التعقيد.
    خلاصة القول، إن الفكر الديني فكر مرتبط ارتباطاً عضوياً بالنصوص الدينية والآثار الفقهية وبما يؤدي إليه ذلك من بُنية فكرية دينية جامدة غير قابلة في حالتها الراهنة للتجديد، إلّا بتبني منهج عقلي يعيد النظر في جميع القوالب الفكرية السائدة بانتهاج أسلوب علمي بهدف الخروج من الحلقة المفرغة التي يعيشها الفكر الديني المعاصر.
 هل الفكر الديني قابل للتجديد؟
     الفكر الديني عموماً، يُصنف ضمن المنظومات الفكرية الجامدة، لأنه فكر يقوم على عنصر القداسة والسرمدية والإطلاقية، لأنه فكر ((نتاج الدين، لا المعرفة الإنسانية))، كما يقول أدونيس، وهو محق في ذلك. فما من رأى أو اجتهاد أو حكم أو قياس أو إجماع إلّا ويتطلب مستنداً دينياً من نص قرآني أو حديث نبوي أو إجماع أو قياس يشهد على صحته. إضافة إلى ما يتمتع به الفكر الديني لدى عموم المسلمين، من شمولية وحصانة عن الزلل. فالفكر الديني، فكر غير قابل للنقض العقلي. كذلك يتمتع هذا الفكر بتقدمه على العقل الإنساني، فضلا عم الإذعان الشعبي للمقولات الدينية حتى ولو كانت غير منطقية، أو متناقضة، بسبب الهالة السحرية للنص الديني من جهة، وشيوع الجهل وقلة الزاد الثقافي لدى عموم المسلمين بمن فيهم حملة الشهادات العليا، حيث يقع الجميع في هالة السحر الديني، إن جاز التعبير والانقياد له دون أدنى تفكير. وبسبب هذا الجمود، وهذه القداسة يواجه الباحث في القضايا ذات البُعد الديني بشكل نقدي، مشاكل عدة ليس أقلها التكفير والاتهام بالردة، وربما يصل الأمر حدّ القتل أو التهديد به، فيما لو أثبت تناقضات الأحكام الدينية، أو حتى تناقضات التاريخ الديني للمسلمين.
    التجديد الديني من وجهة نظر إسلامية ليس موضوعاً جديداً في حدّ ذاته، ففي منطوق الحديث النبوي أن الله يبعث كل مائة عام من يجدد أمر أمّة الإسلام. وهناك من يذكر الفقيه ابن تيمية، ومؤسس الحركة الوهابية محمد بن عبد الوهاب كأمثلة للدلالة على صحة الحديث، لكن لا أحد يتحدث عن غياب هذا المجدد طوال فترة تزيد على ألف عام من تاريخ دار الإسلام !!ولا شك أن التجديد المقصود في هذه الحالة ليس هو ما نبتغيه ونسعى إليه اليوم، بمعنى أننا لا نريد المحافظة على ذات المستوى الفقهي الذي قدمه ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب، حيث قدّم الاثنان قراءة فقهية أكثر جموداً مما كانت عليه بحجة الحفاظ على الدين من التغيير، والحفاظ على النصوص والآثار الدينية. فالتجديد الذي نسعى إليه يجب أن يكون نتاج المعرفة الإنسانية وليس فقط المعرفة الفقهية الجامدة. إنه التجديد القائم على استخدام العقل في الناسوت (العالم)، غير المقيد باللاهوت في مجال الأحكام الدينية. معرفة ترتبط بالواقع دون التفريط بالأصول العقدية. المعرفة القائمة على مستويات عدة من القراءات التابعة لظروف الزمان والمكان واللغة.
     تجديد الفكر الديني الإسلامي الذي ندعو إليه لا يعتمد مرجعية أو منظومة فكرية واحدة: الدين، بل يستمد مصادره المعرفية من منظومات متعددة، مثل العالم، تنوع مناهج البحث العلمي، الأحداث المعاصرة، الظروف الدولية، والواقع الذي يعيشه الناس باختلاف الزمان والمكان. وهذا بدوره يستدعي بضرورة القبول بتعدد القراءات وتعدد مستوياتها. وما لم يكن المحيط الاجتماعي عقلانياً ولديه الاستعداد النفسي لتقبل هذا التنوع الفكري، فلا مجال للحديث عن التجديد. فالفكر الديني ذاته ليس في نهاية الأمر، سوى نتاج عقل بشري، يكون إنسانيا بقدر اقترابه من مجال احترام إنسانية الإنسان الذي يُفترض أن النصوص الدينية تخدمه لكي يحيا حياة طبيعية متآلفة مع الواقع. والحاصل اليوم أن الفكر الديني منقطع الصلة مع الواقع الذي يعيشه المسلمون، حتى وإن أنكروا ذلك، كعادتهم.
   والفكر الديني يكون قابلا للتجديد بمقدار رغبة الناس في التجديد حقاً، وبمقدار توفر الشجاعة والجرأة لدى المثقفين، ذلك أن استحقاقات التجديد غالبا  ما تكون مؤلمة، ليس لأن الفقهاء سيعملون ضدك بالتكفير والإرهاب الفكري، بل لأن هناك من هو على استعداد لقتلك لمنعك من القيام بالعملية، ولأن الغوغاء لن يستمعوا إليك، إن لم يحرّضوا عليك، وكذلك لن الفكر الديني الإسلامي المعاصر قد ترسخ في العقول، مجازاً، بحيث ما عاد الناس راغبين في الاستماع : مهمة المثقف إجبارهم على الاستماع، وكذلك إجبار الفقهاء على الاستماع أيضاً، وهي مهمة ولا شك صعبة وتتطلب السير في طريق وعر من التضحيات.
     والفكر الديني قابل للتجديد بمقدار رغبة المثقف في القيام بهذه المهمة المستحيلة. إنها مغامرة العقل للعصر الحديث، ولكن الحق يقال إن الوضع ليس أكثر أمناً مما كان عليه العصر الأوروبي الوسيط. صحيح أنه لا توجد عقوبات وحشية مثل الإعدام بالخازوق أو الحرق مع الكتب والأوراق، لكن لا تزال هناك عقوبات السجن الطويل، والنفي واحتمالات الاغتيال (وهو أشدها). وبمقدار تحمُّل المصائب، يفرض المثقف مقولاته على الآخرين.
  إن الأمر كله يشبه عملية نحت أمواج البحر المتلاطمة لصخر الشاطئ، حيث إن النحت يحدث ولكن لا نلاحظه إلا بعد وقت طويل جداً. لكن لا فكاك من التجديد مهما طال الزمن. ذلك أن التجديد هو الحياة. ونظراً لأن تجديد الفكر الديني في العالمين العربي والإسلامي عملية مؤجلة، فلا حياة حقيقية للناس في هذين العالمين، حيث تنعدم الحريات المدنية والفكرية والسياسية، وحيث الجمود في كل مناحي الحياة. لكن لماذا التجديد في الفكر الديني تحديداً؟ لأن الدين اليوم، في حالة اشتباك يومي مع كل شيء في حياة الإنسان المسلم، وأنه (الدين) قد أصبح سيد الساحة بدون منازع، حيث تجده في المسجد، كما في الجامعة وبرامج التلفاز والإعلام عموماً. الدين اليوم، يخترق نسيج الحياة من خلال رجال الدين، كما أن له السمع والطاعة لدى الحكام والمحكومين معاً. لقد تمكن الدين من ملء الفراغ الفكري الذي خلفته الليبرالية في العالم العربي. إضافة إلى حقيقة أن الدين أصبح المصدر الرئيسي للمعرفة، إن لم يكن الوحيد. تجده مترسخا في عقل الأميين وأعلى الشهادات دون تمييز. لقد أصبح الدين سلعة مربحة لمن يعرفون كيفية تداوله في السوق البشري. ويمكن القولإن الوضع حاليا ينطبق عليه المبدأ الاقتصادي الشهير، ((إن العملة الرديئة (الفكر الديني) تطرد العملة الجيدة (العقل) من السوق (الحياة) )).
    غني عن القول إن النصوص الدينية لا تنطق من تلقاء ذاتها، بل يتكفل الرجال بتأويلها وتفسيرها وشرحها لمن لا يملكون المعرفة الدينية المطلوبة. ومن سوء حظ الدنيا في عالمنا العربي أن الأغلبية الغالبة من المسلمين لا يملكون هذه المعرفة، برغم مرور أكثر من ألف عام على استقرار الدين وتدوين شروحاته وانتشار مدوناته الفقهية !!إضافة إلى الردة الفكرية التي عصفت بالعالم العربي منذ نكسة الخامس من يونيو (حزيران) لعام 1967، مما أتاح للفكر الديني أن يسد الفراغ الأيديولوجي الذي ظهر مع سقوط الفكر القومي ذي السمة الليبرالية. وتتبدى المشكلة في هذا الغزو الفكري الديني للمجتمع أن التعامل مع الفكر لم يتوقف عند حدود الجوانب الاجتماعية كما كان عليه الحال منذ الأربعينيات، بل تحول الاجتماعي إلى مستوى الانغماس الأيديولوجي، بمعنى أن الفكر الديني أصبح هو الموجه لكل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية وحتى التعليمية. باختصار لقد وقع المجتمع والدولة في فخ الدين المؤدلج. وفي هذه الأدلجة تكمن الصعوبات التي تواجه عملية التجديد الديني. ذلك أنه حين تتحول أي عقيدة إلى أيديولوجيا فإنها تخترق نسيج الحياة في كل المجالات وعند كل المستويات، ومن ثم تتحول العقيدة إلى مرجعية حياتية لكل سلوك وتصرف إنساني. كما حدث في الاتحاد السوفييتي سابقاً، ويحدث اليوم في العالمين العربي والإسلامي، حيث أصبح الإنسان المسلم وبغض النظر عن مستواه العلمي، يبحث عن المشروعية الدينية لكل شيء، بدليل تنامي الوسائل الإعلامية المخصصة لتفسير الأحلام والفتاوى، وكذلك الأمر بالنسبة للبرامج الدينية، إلى جانب محاولة التقرّب من المفهوم الديني في المأكل والملبس والسلوكيات اليومية بشكل عام. ويمكن القول إن مشاهدة الموظف الذي يقضي وقت العمل في قراءة القرآن وعزوف رئيسه عن توبيخه لعدم اهتمامه القيام بواجبه، قد أصبح من المناظر المألوفة التي لم تكن موجودة حتى وقت قريب في مؤسسات الدولة. وكذلك الأمر فيما يخص انتشار اللحى والملابس الرجالية القصيرة، والحجاب الذي تحول إلى قضية سياسية ومحل نزاع اجتماعي في الغرب الأوروبي من المؤشرات التي لا يمكن تجاوزها، دون حاجة للدخول في تفاصيل الإرهاب العالمي القائم على الأيديولوجيا الدينية الإسلامية.
    ويمكن القول بناء على هذه المعطيات اليومية إن الأيديولوجية الدينية قد وفرت مجال الهيمنة للفكر الديني ومن ثم أتاحت الفرصة لممثل هذه الأيديولوجية، رجل الدين أن يفرض نفسه على الساحة، خاصة وأنه يتناغم مع نفس الموجة الشعبية الخاصة بالدين.
    من جانب آخر عملت الحكومات العربية الاستبدادية على تأييد هذا التوجه برغم الشكل الليبرالي للدولة من خلال القانون والتعليم والاقتصاد والنظام السياسي، ذلك أن رجل الدين بمنظمته الفكرية الدينية لا يقف إلى جانب القضايا التي تزعج الدولة مثل، قضايا حقوق الإنسان، والعدالة ودولة القانون والمساواة ومحاسبة الحاكم، فضلا عن تأييد رجل الدين للنظام القائم من منظور الطاعة الدينية. الأمر الذي يعني أن هيمنة الفكر الديني على المجتمع يصبّ لصالح الدولة المستبدة، وبذلك تلاقت مصالح النظام السياسي بالفكر الديني لضمان هيمنتها على مقدرات المجتمع، الأمر الذي يعني وقوفهما معا ضد تجديد الفكر الديني الهادف إلى تحرير الفكر من قبضة اللاهوت الخاضع للفقيه الذي يفسره ويؤوله كما يشاء لمصلحته الخاصة ومصلحة النظام السياسي الذي يحميه، وهذا ما يضاعف المشاكل والعقبات في طريق التجديد المنشود.
   ويبقى التساؤل قائماً: هل الفكر الديني في جوهره ومعطياته قابل للتجديد أم لا؟ والإجابة في هذه الحال تكون على مستويين. الأول يأتي على مستوى التنظير، وهو ما يقوم به الباحثون كل في مجال تخصصه. والثاني يأتي على مستوى التفاعل الاجتماعي. فأما المستوى الأول وهو أيسرهما برغم الاحتمالات الكبيرة السلبية من تهديد ووعيد وربما القتل التي قد تواجه الباحث، ولكن هذا لن يمنع تواصل الجهود القائمة على الساحة العربية التي تزخر بالعديد من الدراسات الجادة في هذا المجال على اختلاف تنوعاتها الفكرية. وأما ما يخص المستوى الثاني فهو أكثرهما عسراً، نظرا لصعوبة قدرة الباحث على دفع الناس المأسورين بالهاجس الديني إلى التفاعل مع دعوات التجديد الديني، ناهيك عن الجهود التي سيبذلها النظام السياسي وأتباعه من رجال الدين لإعاقة أو حتى منع سعي المثقفين للتجديد الديني. وفي جميع الأحوال يحتاج الأمر إلى الحرية أولا وأخيراً. حرية التعبير وحرية الفكر وحرية البحث، ولا أقصد بذلك مجرد الحرية بل الإيمان بالحرية الإنسانية وحقها في التعبير والبحث العلمي دون عنت أو إيذاء في النفس.
  كتاب ((تجديد الفكر الديني)) ليس سوى محاولة للبحث عن سبيل لتجديد حياتنا كمسلمين في عصر ما عاد ينفع معه تراث الماضين. هذا التراث الذي أدّى دوره الثقافي في زمان مضى، ولم يعد اليوم موجوداً. وفي عصر العولمة أصبح الوضع الفكري للمسلمين في أحط درجاته الحضارية. هكذا الفكر يعيش اليوم في مرحلة انعدام وزن، ولا قيمة علمية له، ولا دور حضاري يستحق الذكر، ومن الواضح أن لا حلّ للخروج من هذه الأزمة إلا بتجديد الفكر الإسلامي ما دامت العلمانية متعذرة، بل تكاد تكون مستحيلة.
 
 

كتب ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *