كتاب ترانيم الغواية – رواية لـ ليلى الأطرش
كتاب بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات – رواية اللغة : العربية دار النشر : منشورات ضفاف سنة النشر : 2014 عدد الصفحات : 379 نوع الملف : مصور |
إن كان حياً فليبارك الرب إختياره… ويرحمه برحمته لو انتهى عمره، اختفاء جدّك وإنقطاع أخباره ضاع في هول حادثة هزت البلادء والطائفة بعد شهور، أدمت قلوبنا، وأساءت إلى النصارى، مزقت الوحدة وأيقظت الطائفية، وكادت تنقلب فتنة عارمة، لولا تدخل العقلاء من الملّتين… دخول قائد الحلفاء الإنجليزي أدموند للني إلى القدس.
ورغم أنه دخل المدينة مرتين، إلا أن الدخول الثاني أثار العاصفة، في النصف الأول من كانون الأول 1917، توقف الجنرال الإنجليزي، قائد الحلفاء المنتصر، في محلة الشيخ بدر خارج السور… إحتفال مهيب من رجالات القدس وشيوخها… وخطابات الترحيب مجدت إنتصار الحلفاء على خلافة حائرة… ثم سلمه رئيس البلدية حسين سليم حسن أفندي الحسيني مفتاح القدس، ليدخل إلى البلدة القديمة من باب العمود، فالمدينة المقدسة تزينت، وتنتظر البطل على جوانب دروبها، بغطرسة أخذ المفتاح وبتكبر قال: سأدخل القدس عندما أريد، وفي موعدٍ أحدده أنا، دخوله الثاني بعد أسبوع كامل… ومثل أسلافه دخل ماشياً من باب الخليل في يوم أحد… وعلى موسيقى القُرَب، وقرع الطبول، وبين أعلام الكشافة، وفي إحتفال عسكري مهيب دخل غازباً… والقدس اعتادت دخول الغزاة منذ كانت.
والصحيح أن طوائفنا بالغت في الترحيب به، وأعدت له، في ساحة القيامة، إستقبال بطل، فلا علم لأي منا بنوايا الإنجليزي وما يضمر، فأذهلنا ما قال، وصدمنا قبل غيرنا… كأنما يتشبه بريتشارد قلب الأسد! توقف بصلف على باب كنيسة القيامة وقال: “اليوم انتهت الحروب الصليبية” فهل تصور الجنرال أنه يعيد تاريخ الفرنجة؟ أنسي أنه ما كان سيصل إلى بيت المقدس لولا ثورة العرب ضد الأتراك، ومساندتهم للحلفاء؟! ويعلم الله يا رفيق أن كلماته جرحت قلوبنا، فنزف ألماً وغضباً، وأوقعتنا في حيص بيص، جفت حلوقنا خوفاً من الفتنة، والإنجليزي يجيء بالبلاء للعرب المسيحيين مثلما فعل الصليبيون بعد كل غزوة، وما حسبناه وقع…
ضجّت القدس وعموم البلاد بالرفض والإستنكار… ولا لوم عليهم أو عتاب، فرفض ما قاله الجنرال واجب وطني، وحق علينا جميعاً أن نثور ضدّه ونشجبه، لكنهم، ويا للأسف، حمّلونا ذنب قائد الحلفاء، ووزر ما قاله! كأنه منا ولسنا منهم؟ أو كأننا كنا نعرف ما في ضميره! أو نستطيع ردّه! وأين كانوا حين وقف كبار رجالاتهم وشيوخهم بين يديه مرحبين ومهللين، وسكتوا عاجزين وهو يرفض دخول البلدة القديمة؟ ولم يسأل أحد: من ساعد الحلفاء ضد الأتراك؟… أليسوا زعماء بلاد الشام من المسلمين؟ وشريف مكة وأبناؤه؟ ولولا ثورة العرب ما كان الجنرال ليدخل القدس؟! فقد يوم كشّر عن أنيابه قالوا: نصراني يعيد الحروب الصليبية؟!… والغضب عمّ البلاد، وسوء الفهم شرارة استشرت، وستشعل فتنة لن تبقي ولن تذر… مؤلم يا رفيق أننا مجبرون دائماً على تأكيد عروبتنا… أن نقف في خط دفاع عن إنتمائنا… أن نظل موضع شك وإتهام خفي مهما فعلنا، وهو ما يجرّح النفس ويؤلم الروح.
اجتمع الشباب المستنيرون، مسيحيون ومسلمون، مفكرون وكتّاب وصحافيون ورجال دين وسياسة ورؤساء نوادٍ وأحزاب، في النادي العربي الأرثوذكسي، قلنا للنبي مسيحي صحيح، لكننا عرب وهو إنجليزي… وفلسطين بلادنا منذ الأزل وهو دخيل، ونحن الأرثوذكس سلمنا مفتاح المدينة لعمر بن الخطاب، ولم نسلمه للجنرال الإنجليزي! وحاربنا الصليبيين إلى جانب صلاح الدين الأيوبي وساعدناه ليدخل عكا… ويا جماعة الخير منذ دخل الإسلام بلادنا هل تنّصر المسلمون؟ هاتوا واحد وحاسبونا عليه؟… تعانقنا… وأكدنا وحدتنا وتلاحمنا… وسطّرنا بياناً مشتركاً وقّع عليه الحاضرون، شجبنا ما قال الجنرال، وأكّدنا أن لا علاقة للعرب المسيحيين به، فهو إنجليزي، ونحن من قبائل عربية أصيلة، ولا ولاء لنا إلا لبلادنا وقوميتنا… هدأت الفتنة… فهل نامت؟…
من الخاص إلى العام، من حكايات العمة إلى حكايات القدس تنتقل اللقطات لتسجل حضوراً لقدس واجهت وما زالت تواجه المزيد والمزيد من الأحداث، ولمقدسيين ما زال قدرهم إثبات وجودهم على بقعة أرضية سماوية بتراثها، مجيدة بتاريخها… رائعة في تشكيلتها السكانية… وكيف لا وهي التي خصها خالقها بتمازج عقدي فتحظى بتلك المكانة وتكون نموذجاً حقيقياً لإمكانية التعايش بين البشر مهما كانت معتقداتهم…
تجذب الكاتبة القارئ بشدّة لتتبع أحداث تمضي بين حقيقة وخيال، مترعاً بالأسلوب، ومتماهياً مع شخصيات لعبت أدوارها بإتقان، تلتفت إلى الشخصية المحورية… العمة ميلادة أبو نجمة… تجدها من زمان المخاضات الكبرى، والتحولات العاصفة، ولدت والقدس تخلع عهداً وتعيش آخر، فتشابكت في أيامها خطوط السياسة والدين، وتغير المجتمع وتبدل الأحوال والأفكار ونمط الحياة… فرشاة سوريالية لوّنت المدينة ببشر وأقوام خاض عنهم سورها العتيق… وفي توالي الحقب، وتغير الحكام وتتابع الأحداث، طغت فقاعات العام على الخاص، فطمرت قصص الناس وبعثرتها مثلهم…
وأما الراوية فهي بنت عيسى التي تزور القدس وفكرة فيلم جديد حول القدس تراودها لتعيش فترة سرد الحوادث مع ميلادة في الحوش، من رحم الماضي تولد رؤى وظلال أشخاص، وأسئلة تقيد الخيال، تجهض كل تصدّ للآتي… وزوابع القلق زئير… العمة الميلادة ووالدها سالم، وأخواها حبيب وإبراهيم والمرح، ومدّ سكة حديد يافا القدس، طرائق لم تغب عن أي إجتماع للعائلة… طويلاً انتظرت العمة من يأتي ليسمعها، شاهداً على زمن يسطع في ذاكرتها ويلح، تتمسك بتفاصيله لئلا يفلت إلى نسيانها، وبلا تحفظ تنهمر أحداث حياة مضت…
يقف القارئ عند منعطفات تاريخية مقدسية وقفة المندهش… وسيالات أحداث آنية تمرّ في ذهنه… ألهذا القدر يعيد التاريخ نفسه… وتستوقفه فكرة ملحة… وكأن المشاهد الروائية مشاهد مسرحية لمسرحية مكانها القدس ما زالت في عرض مستمر… سوى أن شخصية تبدلت… بالأمس كانوا الإنكليز واليوم مجموعة من يهود صهاينة يلعبون ذاك الدور… ولكن ما زال هؤلاء المقدسيون هم تلك الشخصية التي لم تتبدل بمعاناتهم ومواجهاتهم وصمودهم المستميت للحفاظ على قداسة القدس وعلى مقدسيتهم كمواطنين مخلصين لقدسهم مكافة إنتماءاتهم.