| |

كتاب سلطان وبغايا – رواية لـ هدى عيد

وصف الكتاب
في رواية «سلطان وبغايا» للكاتبة اللبنانية هدى عيد (دار الفارابي – بيروت 2016) خَيَالٌ يَحْتَكُّ بالواقعِ مُوَلِّدًا إضاءاتٍ هي منها جوهرُ مشهدياتِها الحكائيةِ، أو قُلْ إنّ في الروايةِ واقعًا يستدعي الخيالَ لا لينعِكسَ عليه بتقريرية سردية جافّة وإنما ليذوب فيه ذَوْبَ الإبداع.
وقد تَنَبَّهت الكاتبةُ والأكاديمية اللبنانية ناتالي الخـــــــوري غريب على هذا الأمر، وكتبت مقدِّمةَ الرواية بشــــكل مُرَغِّبٍ في قراءتها ومُحيطٍ بكلّ مضامينها وطرائقها الفنية، وأكّدت فيها أنّ هذا العمـــلَ الإبداعيَّ جديرٌ بالقراءة على الأقل لأسبابٍ ثــــلاثةٍ: أوّلها ثقافيّ وصورتُه مناقشتُها بجرأة لأنظمة واقعها السياسي والاجتماعي والأخلاقي، وثانيها فنيٌّ ينهضُ على دعامة استخدامها تقنيةً سرديّةً غير مستهلَكة في الكتابة الروائية العربية. وثالث الأسباب هو التوافقُ الناعم بين موضوعِ الحكاية وأسلوبِ سردها، وهي أسبابٌ رأت فيها ناتالي الخوري سبيلاً من سُبُل الرواية إلى شدِّ قارئها إلى أحداثها والانغماس فيها بكلّ كيانه.
تتوزّع رواية هدى عيد على مجموعة حكايات تسترجع كل واحدة منها وضع لبنان السياسي والاجتماعي بعد الحرب الأهلية. وهي حكايات متصلة بحكاية بطلها سلطان بك زعتر، الملياردير اللبناني الشهير، الذي خرج من بيته في بيجاما حريرية زرقاء واختفى «ولم يُعلِم أحدًا بوجهته، ولم يترك خلفَه سوى هاتفه النقّال الذي لم يستخدمه من أكثر من سنة». وتكفّلت ابنةُ أخيه «زهيّة عاصم زعتر» بالبحث عنه عبر إجرائها مقابلات مباشرة مع ضحاياه وهم أُناسٍ تقاطعت أقدارُهم مع قَدَرِه وأغلبهم نسوةٌ أكل لُحومَهن وأعمارَهن وباع ما بقي منهن إلى ذئاب المال والأعمال والسياسة. ثم هي تكتشف من خلال فيلم تناقلته وسائل الإعلام أن عمّها العجوز قد «قضى نتيجة لسع النّحل الذي غطّاه من قمّة رأسه حتى أخمص قدميه» في قرية لبنانية نائية حيث تسكن أولى زوجاته.
المألوف في كلّ عمل فنيّ أن المتلقّي يذهب إليه ليقف فيه على ما يعرِضُ عليه من رؤية خاصّة للعالَم، يذهب إليه بتصوّرات عنه مُسبقَة وباستعدادات ذهنية لفهم خطابه وتذوّق جمالياته. غير أن الذهاب إلى الأثر، على ما يرى رولان بارت، لا يُخفي أنّ شيئًا مّا ينطلق من ذاك الأثر مثل سهم ويأتي إلى المتلقّي، يُباغته ليَخِزَه وخزةً تُثبِّته في المتنِ وتشدُّه إلى خطابه. وإنّي واجدٌ وخزةً في رواية «سلطان وبغايا»، هي في رأيي مكمَنُ فِتْنَتِها السرديةُ، تتجلّى في تعمُّدِها إضاعةَ بطلها «سلطان بك زعتر» لتتولّى البحث عنه في حكايتها، تبحث عنه في ذاكرة ضحاياه لتكتُبَ تاريخَه بأفواههم، كأنّ حكاية «سلطان بك زعتر» لا يصلح بها أنْ تُرْوَى إلاّ بأفواه ضحاياه، بل إنّ الرواية بالغت في تغييب بطلها إلى حَدِّ أنها منعت ابنة أخيه «زهية عاصم» من الحضور في مَرْوِّيِّها بضمير المُخاطِبِ، فأيُّ ظُلْمٍ يحيقُ بالحقيقةِ والحقِّ معًا حين نترك الضحيةَ تسرد تاريخَ جَلاّدِها دون أن نمنحه هو حقّ الكلام.
إن هذا الظُّلَمَ «السرديّ» هو ما أسمّيه جمالية تخييب الرواية لانتظار المتلقّي، إنه التخييب الذي مكّنها من أن ترجَّ به قناعاتِ قارئها وتحمله إلى حيث تريد هي لا إلى حيث يريد هو. إن رواية هدى عيد لا تتورّط، كشأن كثيرٍ رواياتنا، في تحقيق أفق انتظار قارئها، لأنّ في ذاك التحقيق تواطؤًا فنيًّا مع ذائقة الناس مُحيلاً على أزمةِ الصَّنعةِ وعلى عيبِ الصانع، بل إني أذهب إلى اعتبار أنّ كلَّ نصٍّ متواطئٍ مع واقعه أو مع ذائقة قارئه إنما هو نصّ يسعى إلى التفريط في لذّة الكتابةِ نفسِها: لذّة الانكشاف، وإلى منع قارئه من مُتْعة القراءة ذاتها: متعة الاكتشاف.
ولا شكّ في أنّ عدم تواطؤ رواية هدى عيد مع انتظار قارئها كان حافزًا لهذا الأخير لأنْ يتواطأ مع خطابها وهي تنحتُ كيانَ بطلها «سلطان بك زعتر» نحتًا هو لوحةُ احتجاجٍ جماليٍّ منها على الواقع، بل قُلْ إنها رسمت لوحةَ شَرٍّ بجمالية عالية، لوحة صار فيها الشرّ سبيلا إلى جمعِ شتات الإنسانيِّ فينا وترميمِه، بل صار الشرُّ لعبةَ الكتابة في كشف نزوعنا الدائم الخفيّ إلى قتل كلّ ما هو حميم فينا وكلّ ما هو بهيّ، أي صار آلةً لصناعة الخير، ذلك أنّ كتابة الشرّ أدبيًّا تضاهي صناعة الخير واقعيا، كلتاهما بحث عن الإنسانيِّ في الإنسان وسعيٌ إليه. وعلى هذا أقول إنّ «سلطان وبغايا» رواية تفكّك بغاء السلطة وفسادها: سلطة المال وسلطة السياسة وسلطة الأخلاق. وهو بغاء، وهو فساد، محمولان معًا في كيان بطلها «سلطان بك زعتر»، هذا الذي كتبته هدى عيد بلغة فاتنة ونحتته فيها بشكل جعله أكثر حقيقيّةً في الذّهنِ من حقيقة سلاطين واقعنا المتخفّين في إهاب ملائكة، كتبته ليكون كشّافَ لُؤمِ هؤلاء وسببًا كافيًا لإدانتهم.
ولئن سيطر «سلطان بك زعتر» على واقع محكيّ رواية هدى عيد ومثّل فيه «التاجر الفذّ، والسياسي المحنّك، العبقريّ الموهوب في تحريك الرؤوس والأموال والوجوه والأجساد»، والرّجلَ الذي «كان يصنع الدولة وأجهزتَها» فإني أجده مُسَيطِرًا أيضًا على مُتخيَّلنا في الواقع، فهو الأنموذجُ المُحيلُ على صورةِ شرورنا جميعا في الواقع، ولكنها صورة يبدو فيها أكثر جرأةً منا على التجلّي بكلّ ما فيه من شرور، فعل ذلك لأنه «لا رجل غيره امتلك جرأة ارتكاب الأفعال الغريبة في الحياة». إنه ذَنْبُنا جمـــــيعا وذِئْبُنا المتعطِّـــــشُ فينا إلى النساء والدِّماء والمال والجاه ولكننا نُخْفيه منافِقين، ونَسْقيه ما يزيد نهمَه إلى إفساد الواقع. وهو نحن حين نفقد بوصلتَنا إلى أرواحنا، فلا يبقى لنا شيء يتّكئ عليه يقينُنا في الدنيا سوى هَدْمِ الكيانات فيها: بَشَرًا وأوطانًا وقِيَمًا وأحلامًا.
وإذا حاولتُ أن أُلِمَّ بصورة «سلطان بك زعتر» كما رسمتها هدى عيد في روايتها قلتُ إنَّ لها ملامح عديدة نفسية واجتماعية وجسدية وتاريخية وثقافية ممتزجٌ بعضُها ببعض امتزاجا لا يمكن أن يَنْتُج عنه إلا هذا البطلُ في وِحْدتِه وجَمْعه، وفي حكمتِه وصَلفه، وفي قوّته وضعفه، وفي عشقه وكراهيته. فقد انتهك كلّ شيء: تاريخه العائليّ وتاريخه الوطنيّ، ومنظومة قِيَم مجتمعِه، فكان «رجلا استثنائيا جدّا، خرق كل القواعد وهشّم كلّ المقاييس»، كما عشق الحياة وبالغ في عشقها وفي امتصاص حشاشتها حتى نهايتها فيه ونهايته فيها، فهو «العاشق حتى الفجع للحياة بكل ما فيها، يُقبل عليها بشراهة ذئب جائع»، ثم إنه رجل متوهّج الرغبة والعاطفة، وكان «فاتنا للنساء رغم كلّ قسوته» بل هو «كالبنزين سريع الاشتعال، رجل نفطيّ بامتياز»، وهو إلى ذلك ممتلئ بوحدانيته حدَّ الإيمان و«لديه القدرة على ألاّ يرى أحدا سواه» على وجه هذه البسيطة.
هل وجدت الرواية بطلها؟ نعم وجدته مَيْتًا في منطقة من بادية لبنان، ووجدته مَيْتًا في الكتابة الروائية العربية. إنّ البحث عن «سلطان بك زعتر» في متن رواية هدى عيد ليس إلا كناية عن بحث روايتنا العربية الراهنة عن بطلها الحكائي الذي غيّبه التجريب السردي وهمّش أدواره وهشّم مفهومه ووظائفه القيمية، فالبحث عن البطل في الحكاية إنما هو بحث عن شيء مفقود في الكتابة الروائية العربية.

مناقشة الكتاب    ملف الكتاب  

كتب ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *