| |

كتاب عالم الإسلام لـ الدكتور حسين مؤنس

حول الكتاب
نظرَ بعين المؤرخ إلى يثرب، فرأى فيها أربع قوى تمثل عناصر سكانها حينذاك، الأوس والخزرج وقضاعة ويهود، وتنازع السيادة منهم الأوس والخزرج، وكانا يتعايشان كقبيلتيْن متجاورتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى، ورأى النزاع يشبّ بينهما وتكثر الحروب والوقائع ولأسباب عدة لتنازع مناطق السيادة في الداخل مرّة، وللسيطرة على مصادر المياه والواحات الواقعة خارج منازل القبائل مرّة ثانية؛ وحوّل نظره فرأى طريق التجارة يمرّ من حواليها ولا يكاد يصيب يثرب من ذلك شيء، لأن الطبيعة حاصرتها بمرتفعات وعرة وطرق غير ممهدة ورمال سائلة تغوص فيها الركبان ولا يسهل على القوافل قطعها، وطباع أهلها المتنافرة سدّت طرق التواصل الأخرى مع قوافل التجارة، بينما مكّة في ذات الوقت كانت بفضل حسن استغلالها لطريق التجارة من أزهر مدن الدنيا وأغناها خلال القرن السادس الميلادي، وهو القرن الذي سبق مجيء الإسلام.

ثم أطبق عينيه، وفتحهما على يثرب بعدما كرّت كرّة للزمان عليها، فرأى اختفاء الصراع بين عناصر السكّان وظهرت يثرب تحت عينيه كبلد واحد متصل الأجزاء عامر بالبيوت والشوارع والحارات، ولاحظ كثرة إنشاء الناس للحدائق والبساتين (الحوائط)، ورأى – عجبًا –تجارة مكّة وقد تدهورت نتيجة سيطرة يثرب على طريق التجارة، ورأى طرق التجارة الجديدة تتمهد في اتجاه الغرب مارّة بوادي العقيق، وفي الاتجاه الجنوبي الغربي مارّة غربي جبل عير، ورأى الجسور وقد أنشات على وديان المدينة تيسيرًا للمواصلات، ثم عاد إلى يثرب فرآها وقد كثرت أسواقها وشوارعها التجارية، وصيرورة كثير من أهلها إلى العمل في التجارة، ورأى سكّانها يزيدون زيادة كبيرة مستمرة، وأسعار الأراضي والمباني وحاجات الحياة ترتفع في المدينة شيئًا فشيئًا

والذي حدث خلال هذه الفترة الفاصلة هو دخول الإسلام، وما صنعه الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة إثر الهجرة هو مفتاح هذا التحوّل

فقد سنَّ – أوّل ما سنَّ – مبدأ المؤاخاة بين عناصر سكّان المدينة، وكتب ما سمّاه المؤرخون بـ: الصحيفة، (صحيفة المدينة)، أو الكتاب، أو العهد، أو .. الدستور، وقالوا في كتبهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه:
بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه يهودَ وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم

فتناول المؤلف بنود هذه الصحيفة تناولاً قانونيًا وقسّمها إلى أجزاء ومواد، وصلت إلى 70 مادة، وحلّل مبادئها، ثم قال إنها وثيقة فريدة في بابها في حوليات الإسلام

فليس لدينا في كل نظم الدول الإسلامية – قبل العصور الحديثة – تشريع دستوري يتضمن المبادئ السامية التي تتضمنها هذه الوثيقة، بل إن أحدًا من حكام المسلمين لم يحرص حرص محمد صلى الله عليه وسلم على أن تبين الحقوق والواجبات في اتفاق حر واضح كهذا الذي رأيناه في تلك الوثيقة.

ويكفي أنها تترك للوحدات القبلية – التي دخلت في تكوينها – الحرية التامة في أن تنظم شئونها على النحو الذي تراه، ما دامت تراعي قواعد شريعة الإسلام ومبادئه الخلقية، بل إن الجماعة لا تتدخل في الشئون المالية للوحدات الداخلية في تكوينها، تاركة ذلك لمسئولية الوحدات، وذلك على أساس سليم من أسس التربية السياسية التي حرص محمد صلى الله عليه وسلم على أن يقررها في دستور جماعته، ويمكننا أن نقول – استنتاجًا من النص – إن نظام الجماعة: إتحادي، أو ما يسمي في مصطلح اليوم: فيدرالي، بمعنى إنه يتكون من وحدات كل وحدة منها مستقلة بنفسها في إدارة شئونها الداخلية، أما الاتحاد بينها فيكون في مسائل الدين وحمايته ونشره وتطبيق شريعته ومبادئه الخلقية، وكذلك في شئون الدفاع والحرب والسلم، أي العلاقات الخارجية

وتحدث كثيرًا عن المدينة، وابتداء العمران فيها ببناء المسجد النبوي الذي سيصير أساسًا لمساجد الدنيا – مع قابلية واسعة للتطور والتكيّف ما دامت الأسس واحدة – ومركزًا لإنشاء المدن الإسلامية وتخطيط شوارعها ومبانيها فيما بعد انطلاقًا من المسجد، وعن نظم إدارة المدينة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وعمل القائد الأول دائمًا على توطيد الانتماء إلى الجماعة وبيان مكسبهم من أثر ذلك.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يشعر الناس بأنهم كسبوا كسبًا ماديًا حقيقيًا باشتراكهم في الجماعة، فكان دائمًا يحضّ الناس على العمل والسعي والكسب الحلال، وما رأى رجلاً زاد ماله من الطريق الحلال إلا دعا الله أن يبارك له فيه، وكان يسرّه أن يرى النعمة ظاهرة على الناس، وما رأى رجلا مقتدرًا إلا حثّه على أن يُظهر النعمة، وما رأى رجلاً رث الثياب مع قدرته على اللبس الطيب إلا عاتبه، وكان يكره من الرجل أن يحرم أهله وأولاده من التمتع بنعم الحياة في اعتدال وكمال.

ومن هنا وفي كلام متدفق حماسي يتنقل المؤلف بين عصور الإسلام المختلفة شرقًا إلى الهند، وغربًا إلى الأندلس، ويرتفع ثم يهبط بنا إلى الحضيض ويرينا الانقسام والفرقة ونظام الخلافة الفاسد الذي حوّل الحكم إلى ملك عضوض، وإلى السياسة التي أفسدت قلوب الحكّام والرعية، الرعيّة التي رأت المُلك وقد بدأ يتداوله الحكام بينهم – بعد حكم الراشدين – بالدماء والسيوف والقتال والدهاء والعنف وبرجال دولة من أمثال الحجّاج بسيفه وخطبه التي مسح كلمة الشعب فيها بالحضيض، فيأسوا من إرجاع الوضع إلى ما كان عليه.

وكلام المؤلف في كل ما يقوله يصعب دفعه أو الوقوف أمام مصبّه، ومن التهور على أية حال محاولة السباحة ضد تيار هذه الحماسة الطاغية جدًا، ثم إنه متمكن من فنون الكلام، فمن الذي قد يتخيّل بداية أفضل من هذه البداية وكأنها خريطة مصمتة مبسوطة وأتى بانٍ في هذا الموضع من العالم وأخذ في تلوين هذا الموضع العسر وتنظيم هذه الرقعة من الأرض وتعظيم قيمة المرؤ في نفسه بامتلاكه للعمل الذي يقوم بأمره أو بإقطاعه جزءً من الأراضي الخالية حول المدينة ليستثمرها، ليزيد هذا الفرد فيما بعد من قيمة الجماعة ذاتها، الذي لم يفتر مديرها وزعيمها عن إرسل الرسل والبعوث والسرايا والغزوات إلى أنحاء العالم، لتأخذ الخريطة في التلوّن شيئًا فشيئًا، وتبدّل ألوانًا باهتة قديمة بأخرى زاهية، ثم .. لتمضي الأمور إلى غاياتها قدمًا.

مناقشة الكتاب    ملف الكتاب    

كتب ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *