| |

كتاب الكينونة والعدم : بحث في الأنطولوجيا الفنومينولوجية لـ جان بول سارتر

حول الكتاب
يبدو لنا لأول وهلة أن كتاب الكينونة والعدم (L’Etre et le néant) هو مجرّد تأملات فلسفية في نشأة الكون ومصير النفس، وتحديداً في العدم السابق للوجود والعدم اللاحق للموت ونهاية العالم! لكننا حين نلقي نظرة على الفهرس ونتصفّح الكتاب تتلاشى إنطباعتنا الأولية تدريجياً، فنجد أنفسنا أمام مصطلحات لا علاقة لها بالأنطولوجيا التقليدية، حيث إن أغلبية هذه المصطلحات تدل على الواقع الإنساني، وتحديداً على وجوده الملموس، الجسدي والنفسي والإجتماعي: الكوجيتو، والإنعكاس على الذات، والإدراك الحسي، والنفي السالب، والخداع النفسي، والكذب، والزمنية النفسية، والتوحديّة، والنظرة والجسد، والعلاقة بالآخر، والحب والكره، واللغة، والسادية، والمازوشية، والرغبة، واللامبالاة، والحرية، والمسؤولية، والعمل، والإمتلاك، وكذلك التحليل النفسي الوجودي! وعندما نقرأ الكتاب ندخل في عالم لامتناهٍ في العمق والإتساع لا يمكن إستنفاده، عالم يسوده مناخ سيكولوجي مرتبط بالوجود الإنساني الملموس في كل تفاصيله اليومية، بحيث يندمج التحليل الفكري في الكثير من الأحيان بالأسلوب القصصي والأمثلة وبشخصية سارتر الروائية، ونكتشف أن الكينونة ليست مقتصرة على العالم وحده، وأن العدم ليس عدماً!.
إن الإشكالية الأولى التي تطرح نفسها أولاً هي: ما علاقة الكينونة والعدم بالواقع الإنساني الملموس؟.

تستدعي مقاربة هذه المسألة تفسيراً للتوصيف الذي قدّمه سارتر لكتابه: إنه بحث في الأنطولوجيا الفنومينولوجية، إذا كانت الكينونة من حيث هي كينونة هي الموضوع المركزي للأنطولوجيا، فإن الظاهرة من حيث إنها كل ما يظهر للوعي عبر تجربته المعاشة، هي الموضوع المركزي للفنومينولوجيا التي تهدف إلى وصف بنية الوعي في علاقته بالموضوع من حيث هو ظاهرة، فما هي علاقة الكينونة “الأنطولوجية” بالوعي “الفنومينولوجي”؟.

يميّز سارتر بين الكينونة في ذاتها والكينونة لذاتها، فالكينونة في ذاتها هي أولاً كينونة هذا الكون اللامتناهي الذي يتميز “بالخارجانية اللامبالية” الموجودة في ذاتها بمعزل عن كينونة الوعي. كذلك، فهي كينونة كل ما يتجاوزه الوعي على مستوى الداخلانية الذاتية.
إن كينونة الوعي هي لذاتها، لأن الوعي يعي ذاته كما يعي العالم الخارجي، إنه موجود بالنسبة إلى ذاته، ولأجل ذاته بسبب إنعكاسيته، وهو يشكّل صلة الوصل بين الفنومينولوجيا والأنطولوجيا: إذا كان الوصف الفنومينولوجي لبنية الوعي يرتبط بالأنطولوجيا من حيث إن الوعي هو كائن لذاته، فإن الوصف الفنومينولوجي للظاهرة كما تبدو للوعي يرتبط بالأنطولوجيا لأنه يتناول الظاهرة من حيث هي كينونة في ذاتها، وخلافاً للأنطولوجيا التقليدية التي تنطلق من التأمل في الكون، يحاول سارتر في المقدمة التي عنوانها “في البحث عن الكينونة”، أن ينطلق من الكوجيتو، أي من تركيبة الوعي ليقدّم البرهان الأنطولوجي الذي يثبت الحقيقة الموضوعية لكينونة الظاهرة.

إن إمكانية الكوجيتو وإنعكاسية الوعي وقدرته “القصدية” على أن “يموضع” ما يطرحه، وأن ينسلخ عن ذاته، ويوجد بذاته، كل ذلك يجعل من الوعي كينونة متعالية، وهذا يتعارض مع التجريبية الواقعية، والظاهرية الحسية (Phénoménisme)، وحتى مع مثالية هوسرل (Husserl)، إلاّ أن الوعي هو فعْل وليس جوهراً، مما يتعارض مع “الجوهرانية” المثالية، خاصة عند ديكارت (Descartes)، ومع المثالية المطلقة.

أما المفهوم المفصلي في هذا الكتاب، أي “L’Etre”، فيعطيه سارتر معنى وفقاً للإطار الذي يوضع فيه، إنه يميّز بوضوح بين “Etre” و”Existence” أو “Exister”، وهو يقول مثلاً “L’Etre existe”؛ وهو غالباً ما يستخدم كلمة “Existence” بمعناه التجريبي العيني والملموس، ويستعملها في بعض الأحيان عندما يتحدث عن علاقة الوجود بالماهية.

من هنا، فإن مفهوم “L’Etre” يجب أن يعني أنطلوجياً الكينونة أو الكائن (والوجود أحياناً)، إن مصطلح “الكينونة” هو الأكثر تجريداً لأن “الكائن” و”الوجود” قد يعبّران عن واقع عيني، ويُستعمل مفهوم “Etre” من حيث هو أحدى المقولات الأساسية للواقع الإنساني: كوْن، فعل، ملُك، في هذه الحالة، إنه ليس “اسماً”، بل هو “فعْل” يدل على “كوْن” هذا الإسم الفاعل كذا أو كذا، كذلك يدلّ على الوجود والكينونة من حيث هما “فعل” وجود وتكوّن، مثلاً عبارة “Mode d’être” أي أسلوب وجود وعبارة “Phénomène d’être” أي ظاهرة الكينونة.

وكما أن الوصف الفنومينولوجي للوعي من حيث وجود لذاته يؤدي إلى إكتشاف الحقيقة الموضوعية للظاهرة من حيث هي وجود في ذاته، فإنه يؤدي أيضاً إلى إكتشاف العدم؛ في القسم الأول، يطرح مشكلة “أصل العدم” إنطلاقاً من السلب، فالعدم هو المفهوم الموحّد للأحكام السالبة وللأفعال السلبية، ويقدم مقاربة جدلية على طريقة هيغل (Hegel) وفنومينولوجية لإكتشاف أصل العدم في بنية الكينونة لذاتها من حيث هي بنية سالبة، ويحاول أن يجد تطبيقاً لذلك في حالة الخداع النفسي من حيث هو نفي سالب لحقيقة ذاتية يتهرب منها المخادع نفسه، العدم ليس مرتبطاً بالكائن كوجود في ذاته، لان هذا الكائن مطلق وموجود منذ الأزل إلى الأبد، إنه مرتبط بالوجود لذاته، أي بالواقع الإنساني، العدم غير موجود في ذاتهع، إنه يتكوّن عدماً؛ فليس هناك “عدم” بالمعنى الحرفيّ للكلمة، أي من حيث هو جوهر قائم بذاته، بل هناك بالأحرى تعديم (Néantisation)، فالتعديم هو خاصية أنطولوجية للوعي وأسلوب وجوده من حيث إنه “ما هو لذاته”، وهو يفترض إنسلاخ الوعي عن ذاته وتجاوزها عبر تعديمها بواسطة “السلب الداخلي”؛ إن السالبية هي أصل العدم بحيث إن العدم ليس كائناً بل هو اللاكينونة، وبمقدار ما يشكل “ما هو لذاته” (أي الوعي ككائن – لذاته) مصدر عدمه الخاص، فإنه يتجاوز الكينونة بواسطة الواقع الإنساني من حيث هو جود لذاته، فالكينونة في ذاتها هي إمتلاء كلي وتستبعد أي عدم.

من هنا الإنتقال إلى القسم الثاني، الكينونة – لذاتها: إذا كان الكائن في ذاته هو ما هو عليه، وهو إمتلاء مطلق، فإن الكائن – لذاته هو ما ليس هو عليه، وهو ليس ما هو عليه، فهناك عدم بينه وبين ذاته، وهذا العدم هو الذي “يفرزه” عبر نفيه السالب لذاته، وهو الشرط الأساسي كي يتجاوز ذاته نحو الممكنات والقيم، إنه يكوّن ذاته عبر تعديم ما هو في ذاته، وعبر إندفاعه نحو المستقبل، فيكوّن بذلك زمنيته النفسية ويخرج من ذاته إلى العالم ويحقق ماهيته.

والقسم الثالث من الكتاب يتناول الكينونة – للآخر، أي العلاقة بين الوعي والوعي، وبين التعالي والتعالي لدى الآخر؛ إنه “الوجود – مع” الذي يتعارض مع التوحدية، ويركّز سارتر على دينامية الصراع بين حرية وحرية أخرى (السيد والعبد عند هيغل، سيكولوجيا النظرة، السادية والمازوشية، الكره واللامبالاة…).

أما في الخلاصة، فيركّز سارتر على التمييز الأنطولوجي بين الكينونة في ذاتها والكينونة لذاتها، كما يحدّد بوضوح الفرق بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا، اللتين تداخلتا كثيراً في مواقع عدة من الكتاب: إذا كانت الأنطولوجيا تتناول البنى المكوّنة للكائن، أو “مناطق الكينونة” بحسب تعبيره، وإذا كانت توضّح بنى وجود الكائنات ككلّ شامل، فإن الميتافيزيقا تستهدف معنى وجود الكائن، وتضع وجود الكائنات في موضع تساؤل.

إن إنبثاق الوجود لذاته في العالم هو الحدث المطلق، هذه هي المسألة الميتافيزيقية التي لا بدّ من صياغتها بهذه الطريقة: لماذا تنبثق الكينونة لذاتها إنطلاقاً من الكائن في ذاته؟ إن الميتافيزيقا هي دراسة المسارات الفردية التي جعلت هذا العالم موجوداً هنا ككل شامل ملموس وفريد، فبهذا المعنى تكون الميتافيزيقا بالنسبة إلى الأنطولوجيا كالتاريخ بالنسبة إلى علم الإجتماع.

نبذة الناشر:
“…لا يمكن للكينونة أن تولّد سوى الكينونة، وإذا كان الإنسان مشمولاً بمسارِ التوالد هذا، فلن يخرج منه سوى ما هو كائن. وإذا كان عليه أن يستفسر عن هذا المسار، أي أن يضعه في موضع التساؤل، فينبغي أن يكون قادراً على إبقائه بكامله أمام ناظرَيْه أي أن يضع نفسه خارج الكينونة، وأن يُضعف في الوقت ذاته بنيتها ككينونة لذلك الكائن. إلا أنه ليس متاحاً “للواقع الإنساني” أن يعدّم، ولو مؤقتاً، كتلة الكينونة القائمة أمامه. وما يستطيع أن يغيره إنما هو علاقته بالكينونة. إنْ وَضَعَ “الواقع الإنساني” موجوداً معيّناً خارج الدائرة المقفلة، فهذا يعني أنه وضع نفسه هو خارج الدائرة بالنسبة إلى هذا الموجود. إنه في هذه الحال يفلت من الموجود، فهو خارج الاستهداف، ولن يكون بإمكان هذا الموجود أن يؤثر في هذا “الواقع الإنساني” الذي كان قد انسحب إلى ما بعد العدم. إن إمكانية “الواقع الإنساني” هذه في خلق العدم الذي يعزله، أعطاها ديكارت بعد الرواقيين، اسماً: هو الحرية…”.

مناقشة الكتاب    ملف الكتاب    

كتب ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *