كتاب الذات عينها كآخر لـ بول ريكور
كتاب الذات عينها كآخر اللغة : العربية دار النشر :المنظمة العربية للترجمة سنة النشر : 2005 عدد الصفحات : 719 نوع الملف : مصور |
منذ المقدمة يخبرنا المؤلف بأن الكوجيتو الديكارتي الواثق من نفسه الذي اعتقد أنه قد ترسخ وكان قادراً على تأسيس ذاته بذاته قد أذله نيتشه وحوله إلى مجرد وهم. فأين تكمن حقيقة هذا الكوجيتو، هذا الأنا أفكر الذي يحتوي الذات؟ يسارع الفيلسوف إلى إقامة تمييز مهم سيكون محور كل كتابه هو التمييز بين هوية ذاتية تتغير وتبقى في الوقت عينه محافظة على ذاتها رغم مرور الزمان بطريقة الوفاء للوعد المقطوع، وبين هوية ثابتة لا تتغير ليست هي الذات بل ما يسمى بالإنكليزية the same التي تتميز عن the self. هذه الهوية التي يمكن تسميتها بالفرنسية بالتعبير le meme أو memete يمكن أن ندعوها بالعربية العين أو ما هو عينه أو العينية، وهي أقرب إلى مفهوم الجوهر الذي لا يتغير بل يظل محافظاً على ما هو عليه، على الرغم من مرور الزمان، وهاتان الهويتان تنتميان إلى حالين مختلفتين من الوجود، إذ إن الهوية الثانية تنتمي بالأحرى إلى عالم الأشياء التي هي بتصرفنا ويمكننا أن نستعملها كما نشاء، في حين أن الهوية الذاتية تنتمي إلى الوجود الذي لا يستطيع إلا أن يطرح الأسئلة حول وجوده.
هذا التمييز سيكون حاسماً في معظم فصول الكتاب، وسيكون سلاح المؤلف وهو يدخل العالم الجديد لمغامرة الذات (soi) الباحثة عن موقعها الأنطولوجي، أي عن وضعها الأخير، بعد أن أنزل نيتشه، سيد الارتياب، الإذلال الأكبر بالأنا النرجسية.
إن ريكور سيلجأ هنا أولاً إلى التحليل بالمعنى الذي أخذته الفلسفة التحليلية الإنكليزية التي تقوم أساساً على التحليل المنطقي للغة، إذ إن الفلسفة التحليلية تشتمل على غنى كبير، ومتسلحاً به سيتكلم على الإنسان المتكلم ثم على الإنسان الممارس للعمل والمتألم، لذا فإنه سيكرس الفصلين الأول والثاني للغة، ويبدأ بمقاربة دلالية للغة، ويناقش هنا أساساً ستراوسن الذي ينطلق من وجود الأجساد، ويعتبر الفاعل مجرد أحد الأشياء التي نتكلم عليها، ويلغي الأحداث الذهنية والتصورات والأفكار. مرة جديدة نحن أمام تحليل لساني ينكر وجود ذات فاعلة، فيرد ريكور بأن كل ما يفعله ستراوسن هنا هو اللجوء إلى الهوية عينه، إلى ما هو متجمد خارج الزمان، ويهمل كل الهوية الذاتية التي تتصف بالقدرة على استعمال اللغة والتغير مع الزمن. أما الفصل الثاني فهو مكرس لمقاربة تداولية للغة، ويناقش المؤلف أفعال الخطاب عند أوستن وسيرل. مرة ثانية نحن أمام تحليلية تخفي الذات المتكلمة، وتنسى أن داخل كل جسد هناك جسد خاص، جسد ينتمي إلى حلقة ما يخصني أنا بالذات.
أما الفصلان الثالث والرابع فهما ينقلاننا من عالم الإنسان المتكلم إلى عالم الإنسان الممارس الفاعل والمتألم. هنا أيضاً في الفلسفة التحليلية نحو أمام مقاربة دلالية تنكر وجود الفاعل وتعتقد أنه ليس سوى أحد العناصر التي تكون الحدث. ريكور يناقش هنا أ.أنسكومب ثم دافيدسون. وهما يشددان على ما يدعوانه الحدث، وبين كل أحداث العالم، أي ما تقع فيه، يشدد التحليل على ما يستحق أن يسمى عملاً. كل حدث هو واقعة مستقلة يمكن وصفها منطقياً في حد ذاتها من دون اللجوء إلى مفهوم الفاعل.
بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى إثارة مسألة الهوية الشخصية التي تنطلق من نواة ثابتة تصاحب الذات في الزمان، وتصبح هوية سردية أي قصة ذلك الذي يقدر أن يروي قصة حياته بأكملها، فينسقها ويدخل إليها عناصر خيالية كي تصبح أقرب إلى الاستيعاب هنا يحصل ديالكتيك بين الهوية الذاتية والهوية العينية، هوية الثبات وعدم التغيير. الطبع هنا هو الذي يرافق الهوية الذاتية كهوية عينية، إذ إنه الأمر الوحيد الذي يبقى كقدر لا يتغير على مدى حياة بأكملها. هذه الهوية السردية تشكل الجسر الذي سيصل الإنسان المتكلم والفاعل المتألم بالإنسان الأخلاقي الذي يتحمل تبعة عمله، لذا فإن الدراسات الثلاث التي تألف هذا الكتاب ستشكل بالضبط الفلسفة الأخلاقية عند ريكور، أي هذه الفلسفة التي تلتقي بالآخر القريب وبالآخر البعيد الذي هو الغريب.