كتاب لغات الفردوس لـ موريس أولندر
كتاب لغات الفردوس – آريون وساميون : ثنائية العناية الإلهية المؤلف : موريس أولندر اللغة : العربية دار النشر :المنظمة العربية للترجمة سنة النشر : 2007 عدد الصفحات : 333 نوع الملف : مصور |
وبعد جولة سريعة تناول فيها بإيجاز أبرز المدارس الفكرية التي أفرجت عنها الحركة الهندو-أوروبية، تحول إلى تحليل نظريات كل من هردر ورينان وماكس موللر وعولدزيهر وغراو، لكونها تمثل، في نظره، محطات مميزة في مراحل النزاع الهندو-أوروبي، قبل أن يختتم معلقاً على مسرحية موسيقية لفاغنير الذي أثرت عنه نزعة العداء للسامية.
لقد أعجب هردر بالشعب العبري وأمعن في تذوق جمالية اللغة والشعر العبريين، لكنه نزع صفة الامتياز المطلق والاختيار الحصري عن الشعوب مطبقاً على الحضارات مبدأ النسبية، كما نحا باتجاه تعددية حضارية قوامها التوفيق بين الحتمية التاريخية والعناية الإلهية، ذلك أن هردر يعتبر الشعوب مدعوه في جلها، بحسب العبقرية الخاصة بكل منها، إلى التعاقب مداورة في جلها، بحسب العبقرية الخاصة بكل منها، إلى التعاقب مداورة على مسرح التاريخ العالمي من أجل تأدية الدول المعد لها من قبل العناية الإلهية. على أنه ما لبث أن غض من فكرتي التعددية والنسبية الحضاريتين بإعلانه أن الغرب المسيحي هو حامل الوحي بلا منازع مما يوجب إقصاء سائر الشعوب بما فيها السامية إلى مرتبة من القصور المستديم.
أما رينان، فلئن وافق هردر في مجال القول بتفوق الآريين على الساميين في شتى المجالات بما فيها الميدان الديني، وتسليمه بالنظام العام الذي ينبغي أن تخضع له البشرية، يعود فيفترق عنه بتجريده العرق السامي، أي العبري حصراً، من كل عبقرية، ناسباً عقيدته التوحيدية إلى غريزة فطرية طبعت بالجمود، بخلاف اللغات الآرية التي تميزت بالمرونة والتنوع.
كذلك يعمل رينان على أرينة يسوع وتحريره من اليهودية السامية، معتبراً أن المسيحية هي ديانة الشعوب المتحضرة. لكنه يحرص في الوقت نفسه على فصلها عن العقيدة المسيحية مختصراً إياها بكلمتين لا غير، هما: المستقبل والتقدم.
أما ماكس موللر الذي رفض رأي رينان القائل بالغريزة الدينية، ومضى يتلمس في الحضارة الفيدية سر العظمة والغنى الأوروبيين، فقد نسب إلى الآريين ديانة وسطية بين التعددية المشركة والوحدانية المسيحية أطلق عليها اسم “الديانة الواحدية”.
لكن موريس أولندر يعود فيتجاوز هذه الحالة الصدامية بتقديمه لنا شخصيتين نموذجيتين هما: القس البروتستانتي رودولف غراو الذي سعى إلى استعادة التوازن المنشود بجرأة الإيمان المتضع أمام الآخر، والمستشرق اليهودي إينياس غولدزيهر الذي نذر جهاده اللغوي للدراسات الإسلامية.
وقد أبى موريس أولندر في ختام كتابه إلا أن يذهب نهائياً برونق الثنائية الآريو-سامية، فإذا به يستدعي على التوالي فصول مسرحية لفاغنير يصور فيها الساميين، على امتلاكهم أسرار الصناعة والسبك، مقعدين عاجزين عن نقل معارفهم إلى الآخرين، مما يجعلهم فريسة سهلة للآريين الذين اكتشفوا هويتهم بنفسهم وتمكنوا من صياغة السيف الذي سيقتلون به أخيراً منافسهم المسخ.
أين يقع الفردوس؟ في أي منطقة مباركة من العالم جعل الله جنة عدن يا ترى؟ بل بأي لغة كان ينطق آدم وحواء في أثناء إقامتهما هناك؟ أو ينبغي التسليم مع القديس أوغسطين بأن الزوجين الأولين كانا عند فجر التاريخ يتكلمان العبرية، أم أنه يحسن بنا المضي مع لايبنتز في تقصيه لغة أمعن في القدم هي لغة القارة “الشيتية” التي يفترض أن تكون قد تفرعت منها ألسنة الشعوب المدعوة هندو-أوروبية مما يجوز اعتبارها، برأي بعض الباحثين، نموذجاً أصيلاً للكلام البشري؟
لغة الفردوس، إذن، هي ما كان عليه التعبير اللغوي في فجر نشوئه. إنها نقطة انغراس النطق البشري في الكلام بمفهومه الأكثر شمولاً ونقاءً، سواء عنينا به كلام الله أم كلام العالم والطبيعة اللذين انتشلهما الله من العدم بقوة “كلمته الأزلية” وكونهما من شتات مبعثر.
لك يول اليونان الأقدمون، على رغم فضولهم المأثور، هذه المسألة أدنى اهتمام، إذ لم يتساءلوا عم تراها تكون لغة آدميي العصر الذهبي في ظل تلك الأزمنة الأولية حيث يختلط الأحياء بالأموات، فيأنس بعضهم إلى رفقة بعض، ويحيون الولائم معاً وسط مناخ من فرح الفتوة المقيم بمنأى عن الكد والمرض والألم، ومن دون أن يعكر هناءة عيشهم أي التزام بسبط النساء في السراء والضراء. لكن، لعل الجواب هو بالنسبة إلى هؤلاء من البداهة بحيث لا يستدعي طرح السؤال أصلاً، إذ ما عساها تكون لغة السلالة الذهبية إلا واحدة دون ما عداها هي اللغة اليونانية التي تتحدى لغو البرابرة حيث تكاد الأصوات لا تفيد من المعاني إلا بقدر ما تشف عنه الغمغمات المبهمة.
وإن قارئ هذا الكتاب ليتبين بوضوح لا يدانيه وضوح أن الأسباب الداعية إلى تأليفه لا تخرج عن إطار الجهد الإنساني الرامي إلى تقديم المعرفة وتوظيفها في هذا القطاع الواقعي تحديداً. لكن إذا كانت أصول العقلانية العلمية تتبلور في سياق العمل على تحديد موضوع كل علم وطرائق بحثه النوعية، فلا يسعنا كذلك إلا الإقرار بأن الكشف في مجال العلوم الإنسانية لا يفترض أرضاً عذراء. بل قارات رسم خريطتها التقليد، واجتازها الفكر الديني، محدداً المسالك الموصلة إليها بكل ما تفرضه من مسارات. أضف إلى ذلك أن الباحث عند افتتاحه أياً من مجالات المعرفة لا مندوحة له من طرح مسائل تكاد تكون صدى للتساؤلات الكبرى التي تهز الجسم الاجتماعي بكامله كتلك التي تتعلق بهويته وجذوره الماضية ومسؤولياته الحاضرة وتطلعاته المستقبلية.