كتاب سيدات الحواس الخمس – رواية لـ جلال برجس
كتاب سيدات الحواس الخمس – رواية اللغة : العربية دار النشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة النشر : 2017 عدد الصفحات : 400 نوع الملف : مصور |
حول الكتاب
” كانت الستارة مغلقة ، بينما ملأت المكان أصوات بقيت تختلط ببيعضها وتحدث جلبة إلى أن أطفئت الأضواء ، وانطلق عزف بيانو ، بدأ هادئاً متمهلاً يترافق مع حركة الستارة وشقّاها يفتحان إلى اليمين وإلى اليسار إلى أن بانت خشبة المسرح وهي معتمة تماماً إلا من بقعة ضوء خفيفة تسقط على رجل يجلس وراء بيانو ، ويعزف بهدوء كمن يبشر بصباح جديد . من مكان ما في المسرح جاء عزف كمنجة ، رافق خفة صوت البيانو ، أخذ الضوء يولد بإيقاع تدريجي . فبدأت تظهر ملامح خفيفة لجبل القلعة بأعمدته ، وأقواسه ، وحجارته المتناثرة حيث يجلس عازف البيانو قرب ( معبد هرقل ) وأمامه طيف لجبال عمان وبيوتها تتعربشه . تعالى صوت الكمنجة والبيانو يصاحبان بزوغ الشمس من وراء الجبال ، ولاحت في الأفق عصافير أخذت تحلّق للتوّ بخفة من تأخذهم الشمس بمعيتها وهي تعلن نهاراً جديداً . حينما اكتملت الإضاءة على خشبة المسرح ، صفق الجمهور لسراج عز الدين وهو يرسم بمفاتيح البيانو شكل الصباح حينما يولد . من عمق المسرح أطلّت ليلى إياد ترتدي ثوباً أزرق يحاكي حاسة البصر . بقيت تمشي ببطء إلى أن وصلت منتصف المسرح ، … قالت بعدما التفتت نحو الشمس والشاشة الالكترونية تصفها بمهارة ، فارتقت دربها وألقت بأشعتها على جبال عمان : لم نمت كنا نعدّ بيان القلب ؛ لتتضح الطريق . من ورائها جاءت سوار ترتدي ثوباً أرجوانياً ، وتغني للصباح بصوت خفيض ، حيث نشطت آلات موسيقية أخرى لأغنية تخصّ الروح على أن تنصت قبل المسامع ، بينما ليلى إياد تستمر في كلامها وهي تتقافز على خشبة المسرح : لا شيء يمكنه أن يجعلنا نوقن أننا نرى جيداً أكثر من يقيننا أننا نرى ما وراء الأشياء . الغمام دليل المطر . تساقط الأوراق من الأشجار دليل الخريف . ضجيج الرمل في الصحارى دليل الطوفان . دارت حول نفسها لمرّات ، ثم استلقت ووضعت أذنها على الأرض ، وراحت تقول بصوت خائف : إني أسمع صوت الهدير يتعالى . نهضت متعجلة ، وصعدت من الفسحة التي تقع بين جبال عمان وجبل القلعة حيث ما يزال سراج يعزف ، ونادت بصوت منذر : لن ينفع أن تغلقوا البواب ، والنوافذ ، أو تهربوا إلى الأماكن العالية ، كل ما عليكم هو أن تصنعوا من أجسادكم سدّاً ليتراجع الطوفان … من جهة اليسار في المسرح خرجت كنْدة همّام فصفق الذين عرفوها وهم يرونها ترتدي ثوباً أخضر . وضعت كفّها أعلى حاجبيها ، وراحت تخاطب الجمهور : البلاد شجرة ، تعالوا نتحرك مع حركة ظلها ، ولا بأس لو مكثنا قليلاً بطرف الظلّ حيث وجع الهاجرة . لكن علينا أن نحمي شجرتنا من أيدينا . الإخضرار بياننا بوجه اليباس ، فلا بيان يكتب إلا بقلم يتتبع رائحة ما يمكن أن يحدث . وضعت يدها بيد ليلى إياد ، بينما سوار ما تزال تغني بصوت خفيض للصباح ، ثم قالت بصوت مرتفع : ألا تشمّون رائحة المحل ؟ المحلُ قادم فاحرصوا على خوابيكم . خرجت وعد ترتدي ثوباً أبيض ، ترافقها غادة ، وهي ترتدي ثوباً وردياً ، وتهرعان نحو سراج وهو منهك بالعزف ، ثم قالتا بصوت واحد : الإخضرار مقابل اليباس . النور مقابل العتم . الصوت مقابل الضجيج . فلن يتراجع ليل إلا إن بزغت شمسه . نشطت سوار بأغنيتها ، ونشطت الموسيقى وتعالت أصوات النساء الخمس : حواء وطن ، والوطن قلب حوار الدافىء ، فلا تسقوا شموسه ، من بوابة المسرح ، دخل المحقق عدنان البادي ، وأخذ مندهشاً ينظر نحو النساء الخمس ، ونحو سراج دون أن يفهم ما الذي يحدث ، من ورائه تختبر رعد عبد الجليل متعرقاً ولاهثاً ، وراح ينادي بصوت متوتر : القبضاي فخخ الغاليري بالمتفجرات ، كانت هذه الكلمات آخر ما قيل هناك ، إذ تهادى مبنى غاليري ( الحواس الخمس ) ، وتطايرت منه الشظايا ، والأدخنة والغبار ، ولم ينجُ أحد ممن كانوا فيه . ” سراج ، الشخصية المحورية ، التي كرّس حياته في إقناع نفسه أولاً ، ثم من حوله بمدى فعالية الحواس الخمس لدى الإنسان للتنبؤ كان ضحية قناعاته هذه ، إذ لم تستطع حواسه الخمس التنبؤ بقدره هذا … وذلك عندما كانت أحاسيسه تزرع ورداً وأملاً ، سكبه من خلال ألحانه … وأفكارٍ عبرت عنها كلمات تلك الأناشيد والمقطوعات الكلامية التي أنشدتها فتيات خمس اللواتي مثلن حراس الإنسان الخمس . فهو وفي قمة عطاءاته الداعية إلى السلام أخفقت حواسه في التنبؤ في أنه ومع نهاية هذه الأوبرا ستكون نهايته .. وسؤال يلح في ذهن الكاتب : ما نفع حواسنا الخمس إن لم تكن لها القدرة على التنبؤ بما يمكن أن يحدث لنا ؟ ينقلك خيال الكاتب إلى عالم يموج بأحداث تعبير عن واقع أليم ومرير مليء بأحداث تجعلك تتوقق ملياً عند قصص وحكايا شخصياته التي تفوء بأحمال ظروف حياتية صعبة قاسية … وانحرافات وشذور وخيانات وغدر .. وكاتب يحمّل رمز الحواس الخمس رسائل على القارىء فهمها للوصول إلى فكرة … حواسك تخونك .. فللحياة أننا لن تستطيع النفس البشرية حلها على الإطلاق … وكلما غرق المجتمع بالشرور … لن يكون بالإمكان إجتماع الوردة والبندقية في مكان واحد … ولن يكون للنفس ذاك النقاء ، والثاني للإنسان ولحواسه القدرة على العمل بجلاء ووضوح لمعرفة ما ينتظره …