كتاب خيوط على دوائر – قصص
كتاب خيوط على دوائر – قصص المؤلف : مجموعة مؤلفين اللغة : العربية ترجمة : غير موجود سنة النشر : 2011 عدد الصفحات : 432 نوع الملف : مصور |
كتاب خيوط على دوائر – قصص تأليف مجموعة مؤلفين .
عند تناول كتابات جديدة – لعلها من أبرز علامات ثقافة 1995 في تقديري – لعدد من الكتّاب لم يتجاوزوا العقد الثالث من العمر، اصدروا كتاباً مشتركاً هو “خيوط على دوائر” دار شرقيات بنوع من شجاعة المواجهة، او التضامن ازاء المواجهة، يثور السؤال: هل هذه حساسية جديدة اخرى، بعد ان مر نحو ثلاثة عقود على رسوخ الظاهرة التي عُرفت بـ “الحساسية الجديدة”؟
وأقترح، بدءاً، ان هذه الكتابات لا تمثل نقلة اساسية في تقنيات ورؤى ما عرفناه باسم الحساسية الجديدة التي لعلها اصبحت كلاسيكية الآن، وأنها ببساطة تطوير وتعميق لتيار محدد من تلك الحساسية، هو “تيار النظرة” او الحياد او التشيّؤ. نقصد تلك الكتابة التي تعتمد من حيث الشكل لغة باردة، هادئة النبرة ليس فيها احتدام او حرارة العضوية والتورط، ومن حيث الرؤية تعتمد نظرة العين الصاحية التي ترصد “الاشياء” من الخارج على نحو “موضوعي” لا تتدخل فيه “الذات” ولا يختلج بالانفعال.
كتابة وائل رجب تذهب الى آخر الشوط في هذا التيار التقريري، القائم على نظرة ميكروسكوبية الى الاشياء، ورصدها باستخدام مصطلحات الفيزياء والميكانيكا والهندسة لكي ينقل الحياة العضوية بحيث يجردها من كل حيوية وتدفق وعفوية، بل يحبسها في داخل مواصفات تكاد تكون “علمية” جامدة ومحايدة. ويشاركه الى حد ما في هذا كل كتّاب المجموعة: أحمد غريب، أحمد فاروق، علاء البربري، نادين شمس وهيثم الورداني.
من السمات العامة لهذه الكتابة ما اسميه كتابة “الفيديو كليب”، حيث يغلب ان تأتي اللقطات الخاطفة المتعاقبة – كما يحدث في الفيديو كليب، بومضات تؤلف بينها – أو لا تؤلف – تقنية المونتاج السينمائي. ولكن المهم في ذلك هو هل ثمة دلالة “حقيقية” في هذا النوع من الكتابة؟ هل هذه الآلية، والشيئية، و “الخارجية” التي تتميز برفض كامل للتورط، تعبير عن “اللامبالاة” الاساسية التي اخذت تتسلل الى وعي هذا الجيل، وانعكاس لانقطاعه التام عن كل مرجعية سياسية او اجتماعية او ايديولوجية؟ أليس هذا الحياد، هذا الانقطاع، في نهاية الامر موقفاً من المجتمع ومن الايديولوجيا، خصوصاً بعد ما عانيناه من انهيار الشعارات والقيم التي جلجلت في الخمسينات والستينات، ثم تكشفت عن خواء وخداع، او على الاقل عن اخفاق مدو وانجازات قليلة؟
تيار “الحياد” الظاهري عند كتّاب مثل بهاء طاهر وابراهيم اصلان ومحمود الورداني – في كتاباتهم الاولى – يكشف في التحليل الأخير تورطاً حتى العنق، وانشغالاً عميقاً بهموم اجتماعية في المقام الاول، معبراً عنها بجبلة الرصد الخارجي البارد الذي من شأنه ان يثير الغضب والانفعال، لأنه نابع بالضبط منهما. اما قصص الفيديو كليب هذه، فإنني اخشى ان يكون فيها ما يقرب من العبثية أي اللامبالاة او العدمية.
بعض هؤلاء الكتّاب يرفض، حين نناقشه، هذا التصور، ويُرجع اسلوب التحييد الى ما يسميه تغييب الوعي، او تحويله الى المضمر المسكوت عنه، ما يعني في النهاية إنكار مقولة اللامبالاة او العدمية. يبقى في ذلك التبرير ان النصوص، في معظمها، لا تؤيده، وقد يحتاج الامر الى مران فني اكبر وأنضج، على ما في كتابات هذا الجيل الجديد من نضج وتحقق لا شك فيهما.
من الخصائص الواضحة لهؤلاء، ذهابهم في تناول المشاهد العضوية والجنسية الى مدى لم يذهب اليه احد ممن سبقهم. فتغليف هذه المشاهد بنوع من الشاعرية، او غمرها بضوء شفيف، كان من الحيل الفنية التي لجأنا اليها، نحن المخضرمين. اما هم، فيكسرون الطابور ببساطة ومن دون تكلف او جهد، يأخذون “المحرمات” مأخذ المسلّم به، من حيث اللغة او التصور على السواء. وفي هذا مغامرة منعشة تدخل بالهواء الطلق الى مناطق ظلت مغلقة ومحبوسة منذ تركها التراثيون القدامى.
ويسعنا ادراج معظم هذه الكتابات في سياق “الكتابة العابرة للانواع”، أو “الكتابة عبر النوعية” بسبب استيحائها اشكال تعبير مختلفة، كاستخدامها على وجه الخصوص تقنيات السينما والفيديو بحرية وبراعة ومقدرة: من لقطات مقربة او مكبرة او عريضة او دائرية، ومن تعاقب للمشاهد وللسامع على اسلوب كتابة السيناريو، ومن إضاءة مركزة او تعتيم خفيف او مطبق، كل ذلك بعيداً من الحبكة التقليدية او الشرح الاجتماعي والنفسي، او التوازن المفروض قديماً بين “عناصر” القص من حوار وتعليل ووصف وتحليل الى آخر معطيات الحساسية القديمة.
إن الرصد الخارجي الدقيق لتفاصيل المشهد اليومي المبتذل العادي، قد يحمل دلالة نفي الانسان عن العالم، اي استئثار “الاشياء” و “الموضوعات” بالمركز، وتنحية الحياة الداخلية تماماً عن مواقع الضوء. وقد يحمل دلالة متناقضة، اذا رأينا فيه استعارة – بحيث يومئ هذا التحييد الى نزوع النصوص الجديدة نحو انكار هذه الآلية – وهو ما يطلقون عليه تقنية “تغييب الوعي”.
إن “اللارومانسية” التامة في هذه الكتابات، قد تشي بحنين مفقود الى الرومانسية. لا نقع مثلاً على كلمة “حب”، كأنها مفردة ألغيت من المعجم الشعوري إلغاء تاماً. والعلاقات بين رجل وامرأة – غالباً لا اسم لها ولا هوية – هي علاقات آلية، من دون متعة ومن دون اشمئزاز، من دون نشوة او احساس بالذنب، مثل شرب كوب من الماء لا بارد ولا حار، بل في درجة حرارة الغرفة!.
ما ينقذ هذه الكتابات من هوة العدمية، او العبثية المطلقة، انها تختزن مقدرة على السخرية – من النفس ومن الآخر – وعلى الدعابة التي قد تكون سوداء وقد تكون غير جارحة.
هؤلاء الكتّاب الشبان الذين اكتشفهم الجمهور خلال العام المنتهي، جديرون لا بالترحيب فقط بل بالتقدير وبالدراسة المتأنية. فهم اصحاب مواهب ومقدرات لا شك فيها، وأصحاب رؤى وأساليب وحساسيات جديدة.